لا يزال الابتعاث محل خلاف بين عدد من أفراد المجتمع السعودي بحجج مختلفة ومتباينة، أحياناً وظيفياً وفي أحايين أخرى شرعياً. واللافت حالياً وجود عدد لا يستهان به من المحافظين، قبلوا أن يدرسوا في الغرب - رجالاً ونساء - في بيئات مختلطة وتخصصات ليست نادرة أو غير موجودة في بلدان إسلامية، إذ إن الرؤية الشرعية المحافظة تحرِّم السفر للدول غير المسلمة، وتستثني دراسة العلوم النادرة والعلاج والتجارة فقط. ثمة تناقضات لا تفلتها عين المراقب، مثل رفض الاختلاط في المناسبات السعودية في أميركا وبقية دول الغرب، ورفض الآراء الشرعية الأكثر تسامحاً وانفتاحاً مع الآخر والمرأة، على رغم أن المدرسة الشرعية المحافظة ترى أن علماء كل دولة أدرى بواقعهم فضلاً عمّا يسمى بفقه الأقليات. الابتعاث في رأي عدد من المؤيدين فرصة لاكتساب تجارب عالمية، كما أنه يجلب المعرفة في تخصصات عدة، ويساعد في إنتاج كفاءات تسهم في النهضة التعليمية والمعرفية في الوطن، ويجده آخرون مشروعاً تغريبياً لا يهدف إلى التعليم بقدر ما يهدف إلى وأد الهوية المجتمعية، والانسلاخ من تقاليد وعادات اعتاد عليها المجتمع السعودي. كل ذلك شأن لوحده، يتمثّل في قبول ورفض برنامج الابتعاث بعمومه، ومدى جدواه، فيما تشكّل حال القبول والرفض وجهاً آخر عند الحديث عن ابتعاث الفتاة السعودية، فثمة صورة نمطية مكونة عن بعض من يُطلق عليهم «دعاة»، بأنهم مضادون لفكرة ابتعاث السعوديات، حتى وإن كان ابتعاثها يتطلّب وجود مرافق معها يمثّل «محرماً» لها، بل إن الرفض لا يقتصر على هؤلاء وحدهم، وإنما يمتد ليصل إلى بعض أفراد المجتمع ممن لا يقبلون بتلك الفكرة، بحجج الاختلاط وإمكان كشف الوجه وغيرها. وفي مقابل ذلك يُطلّ فريق ينطلق من مفهوم المساواة بين الجنسين، وتأكيد أن الابتعاث حق للأنثى السعودية كما هو للذكر السعودي. ويرى أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة في جامعة الملك عبدالعزيز، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور حسن بن سفر، أنه يمكن استبدال مشروع الابتعاث الخارجي بإنشاء كيانات وأكاديميات تعليمية مميّزة في المملكة، توازي ما يمكن الحصول عليه من الابتعاث، بهدف القضاء على أية مشكلات يمكن أن تحدث، مطالباً بضرورة العمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة في شأن المحافظة على هوية المرأة الإسلامية. ويستبعد ابن سفر أن تكون هناك حال من الصراع بين فريقين على مشروع الابتعاث الخارجي للفتاة السعودية، فهو يرى أن الأمر لا يعدو كونه اختلافاً في وجهات النظر يجب التعامل معه بفتح حوارات منهجية قائمة على المصلحة، معتبراً أن المصالح حالياً من ابتعاث الفتاة مقدّمة على المفاسد. وقال في حديثه إلى «الحياة» إن «الشريعة الإسلامية أكدت على أهمية التعليم للرجل والمرأة، والمرأة إذا كان ابتعاثها قائماً على المصلحة وتنمية بلادها والمشاركة في إعداد أجيال من النساء متمسكات بدينهن ومتطورات في علمهن، فليس هناك مانع شرعي إذا أُمنت الفتنة، وكانت الضوابط الشرعية حاضرة من عدم التبرج والسفور، والمحافظة على كونها مسلمة ذات شخصية اعتبارية، أما إذا كان هناك تبرّج وغيره فإن هذه المفاسد، فنحن قد نفتقد إلى بعض التخصصات وإلى بعض الكوادر الكافية والمؤهلة لتعليم تلك التخصصات، لذا يكون الابتعاث حلاً، إضافة إلى محاولة بناء أرضية أكاديمية للمستقبل، أو أن يتم التعاقد مع جامعات غربية عريقة مثل بعض دول الخليج العربي، بحيث تكون لها أفرع في المملكة، ونحن نقيد ما يتناسب مع طبيعة المجتمع». وذكر أن الاختلاط إذا كان حجّة لدى البعض، فإنه يحضر في حالات عدة لدينا وحتى في بعض القاعات الدراسية، مشيراً إلى أنه أمر معتاد، لكن يجب أن تكون الضوابط الشرعية حاضرة، مبيناً أن مقصد المعارضين لهذا المشروع نابع من خوفهم على الفتيات انطلاقاً من كونهن لسن جميعاً على مستوى واحد من الفكر والأسلوب، مضيفاً: «إلا أن بعض حالات التخوف ممزوجة بالمبالغات، لأن كثيراً من المبتعثات والخريجات ذهبن وعدن وهن مميّزات، وحملن شهادات يفخر بها الوطن، ما يعني أن تخوّف البعض يشكّل اجتهادات ناتجة من قصور في الفهم، ويجب أن يعلموا أن هناك متابعة ورقابة من الملحقيات والسفارات، وتوصيات بالاهتمام بالطلاب والطالبات». بدوره، اشترط الأستاذ في المعهد العالي للقضاء والخبير في مجْمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور محمد النجيمي، عدداً من الشروط التي يجب توافرها قبيل الموافقة على ابتعاث الفتاة السعودية، يأتي أبرزها ألا يتم ابتعاثها إلا لدراسة تخصص نادر غير موجود في المملكة، أو موجود بمستوى أقل مما هو عليه في الخارج. وأضاف في حديثه مع «الحياة» أنه «يجب ألا تُبتعث الفتاة للخارج إلا لتخصص نادر، مع وجوب وجود المحرم معها، وإذا أمكن ابتعاثها لبلد إسلامي مثل ماليزيا أو مصر أو المغرب أو تركيا فهو أولى من ابتعاثها إلى بلد غير مسلم، ولا بد من أن يكون لديها قبل الابتعاث درجة البكالوريوس وأكثر، إلا إذا كانت مرافقة لزوجها أو والدها للدراسة، فالمجتمع المعارض ليس خائفاً من تعلّم المرأة، وإنما من وجودها في بلدان غربية غير إسلامية، بدليل أننا نرى الدعم الاجتماعي لها داخلياً رغبة في تعليمها، كذلك لا نجد معارضة في حال دراستها في بلدان إسلامية سواء أكانت مجاورة أم بعيدة، وبالتالي فإنه ليس من المناسب الهجوم على المعارضين، لأن الكثير منهم ينطلقون من منطلق شرعي، وبعضهم من منطلق العادات التي ينبع كثير منها من الشريعة، لذا فإن أفضل الطرق أنه ليس هناك ضرورة وحاجة للابتعاث والدراسة في الخارج، لكن إن حدث فيجب أن يتم ضبطه». واعتبر أن بعض التقاليد لها دور في رفض ابتعاث الفتاة السعودية، خصوصاً في ما يتعلّق بكشف الوجه الذي يعارضه البعض إلا ضرورة، مشيراً إلى أن هناك مبررات دينية ومبررات من العادات، وهناك مبررات ثقافية تتمثّل في أن البعض يخشون من انحراف الفتاة، مضيفاً: «لكني أرى أن الفتاة الملتزمة التي تدرس في تخصص نادر ومعها محرم، فإن هذا سيعود علينا بالخير، وغالباً لن يكون هناك تأثير سلبي».