هو أمر لا يحدث كثيراً في عالم السينما، خصوصاً في عالم المهرجانات الكبيرة، فخلال أقل من عامين ها هما مهرجانان، يُعدّان الأكبر في أوروبا، وربما في العالم كله، يفتتحان دورتيهما بفيلمين من توقيع مخرج أميركي واحد: ويس آندرسون. فإذا كان مهرجان «كان» الفرنسي افتتح دورة أخيرة له بفيلم «مملكة ضوء القمر» لآندرسون، ها هو مهرجان برلين يفتتح دورته الجديدة ليل أمس بفيلم «فندق بودابست الكبير»، آخر نتاجات المخرج الأميركي الذي يمكن القول إنه واحد من أولئك المخرجين الجدد الذين يميزهم أن الواحد منهم لم يحقق أي فيلم ثانوي الأهمية حتى الآن مثله في هذا مثل سميّه بول توماس أندرسون ودايفيد فينشر ودايفيد أو راسل وسواهم... من هنا، لا يمكن اعتبار اختيار «فندق بودابست الكبير» لافتتاح المهرجان الألماني صدفة، بل هو يبدو من صميم اهتمامات هذا المهرجان الذي، وربما على عكس معظم المهرجانات الأخرى، يُفضل أن يجعل الأفلام ومخرجيها نجومه في عروض تمتد نحو دزينة من الأيام. أفلام آتية من جميع أنحاء العالم، وغالباً ما تكون الأكثر تعبيراً عن هموم مخرجيها ومؤلفيها، وبالتالي هموم مجتمعاتهم في هذه الأزمان الانتقالية التي تعبرها البشرية، شاءت أم أبت، عارفة أن السينما بالمرصاد لالتقاط كل الحساسيات، حتى وإن قال آندرسون إنه إنما استوحى فيلمه الجديد الذي صوّره في أوروبا التي يعمل فيها للمرة الأولى في مساره، من نص لكاتب بدايات القرن العشرين ستيفان تسفايغ، ويدور حول حارس فندق يحصل له أن يرث لوحة ثمينة ونادرة تنتمي إلى عصر النهضة. ربع الأفلام فقط إذاً، افتتح «فندق بودابست الكبير»، مهرجان «برلين» في دورة جديدة أتت أضواؤها ودفء احتفالاتها وحرارة سينماها لتخفف بعض الشيء من البرد البرليني الشهير، في تلك الساحة التي منذ أقامت فيها شركة «سوني» مجمعها الثقافي الشهير في منطقة كانت تعتبر «أرض لا أحد» بين البرلينين أيام الحرب الباردة، باتت تعتبر ساحة عالمية جديدة لتلاقي أهل الفن السابع آتين من شتى أنحاء العالم، بأفلام أو من دونها. وحسب المرء أن يتأمل في برامج الدورة الجديدة المفصلة عدداً كبيراً من التظاهرات التي يعجز عن إحصائها، ليكتشف أنه أمام سينما العالم بالمعنى العميق لا الفولكلوري للكلمة: ففي المسابقة الرسمية كما في الفوروم والبانوراما و «مواهب في برلين» وسواها، هناك أفلام بالعشرات لا شك في أن المشاهد يضيع بينها، وعليه في نهاية الأمر أن يدقق في اختياراته طالما أن خريطة العروض وازدواجية التوقيت لا تسمحان له بمشاهدة أكثر من ربع ما هو معروض مهما كانت حماسته ودأبه السينمائي، بل مهما كانت عميقة رغباته في اللجوء إلى دفء الصالات هرباً من صقيع الخارج... غير أن الربع الذي يمكن الجمهور أن يراه، اعتباراً من اليوم بعد افتتاح الأمس الصاخب، سيكون كافياً لإعطاء فكرة عن «برلين» وعن «آخر أحوال السينما العالمية»... ونبدأ بالمسابقة الرسمية المعتبرة دائماً التظاهرة الأساس والتي يتطلع المشاركون فيها إلى الحصول على الدببة الذهبية والفضية في حفلة الختام، بعد أيام... تبعاً لما سترتئي لجنة التحكيم المميزة هذا العام والتي يرأسها المنتج والكاتب الأميركي جيمس شاموس، وفي عضويتها كل من بربارا بروكولي منتجة أفلام جيمس بوند الأخيرة، والممثل الدنماركي ترايني ديرهولم والمخرجة الإيرانية والرسامة ميترا فارحاني و «نجمة» السينما المستقلة الأميركية غريتا غرونغ والمخرج الفرنسي المتأمرك كيشال غوندري والممثل الصيني الراسخ طوني لانغ، على الأقل منذ «في مزاج الحب»، وأخيراً الممثل النمسوي كريستوف والتز الذي لا يمكن نسيان أدائه الرائع في تحفة كوينتن تارانتينو «أوغاد سيئو السمعة». وهذه اللجنة هي التي بدأت منذ أمس بمشاهدة الأفلام المتبارية لتوزع في النهاية ثماني جوائز رئيسة بين أفلام يكتشفها الجمهور للمرة الأولى، ومن أبرزها، إلى جانب فيلم الافتتاح، فيلم الأميركي ريتشارد لينكليتر الجديد «عهد الصبا» يقابله من فرنسا فيلم المخضرم آلان رينيه «أن نحب ونشرب ونغني» وفيلم الفرنسي من أصل جزائري رشيد بو شارب «درب العدو» الذي كان برز خلال السنوات الفائتة على الأقل بفيلمين له نالا حظوة نقدية وجماهيرية وصخباً سياسياً هما «السكان الأصليون» و «الخارجون على القانون». وإلى هذه الأفلام الآتية من بلدان راسخة سينمائياً هناك مجموعة أفلام من ألمانيا، البلد المضيف، والدنمارك وبريطانيا والنمسا، لعل أبرزها وأكثرها لفتاً للنظر «جاك» للألماني إدوارد بيرغر و«كرافتيديوتين» لهانس بيتر مولند المنتج في شكل مشترك بين النرويج والسويد والدنمارك و «محطات التقاطع» للألماني ديتريك بودجيمان و «الجميلة والوحش» في نسخة جديدة ألمانية – فرنسية الإنتاج لكريستوف غانس، و«ماكوندو» وهو الأول للمخرج الإيراني المقيم في النمسا مرتضى سودابه، و«عوالم وسيطة» لفية آدالاغ... إلخ. أما العرضان اللذان قد يحوزان أكبر مقدار من الشعبية في التظاهرة الأساسية – إنما خارج المسابقة – فهما جديد الدنماركي لارس فون ترير «نيمفومانياك المجلد الأول»، لسمعته كواحد من أكثر الأفلام «الجدية» إباحية في السينما المعاصرة، و«صروح أميركية» من إخراج جورج كلوني في عودة إلى وراء الكاميرا تبهر معجبيه، خصوصاً معجباته، الكثر كالعادة... ثلاث نساء من عندنا وإذا كنا ذكرنا الجزائري الأصل رشيد بو شارب مشاركاً أساسياً في المسابقة الرسمية، فإن هذا يدفعنا إلى التساؤل عن حصة العرب في هذه الدورة من هذا المهرجان السينمائي العالمي الكبير، هم الذين اعتادوا أن يكون لهم حضور لافت في المناسبات السينمائية العالمية خلال السنوات الأخيرة التالية لما كان يسمى «الربيع العربي»... صحيح أن تفحص وثائق المهرجان وتظاهراته، سيضعنا أمام أسماء كثيرة ستبدو للوهلة الأولى ذات رنات عربية، ولكن سرعان ما سنكتشف جو معلوف آتياً من أميركا وكريم عرنوز من البرازيل وآخرين من الهند أو من إيران... ومع هذا، لن يخلو الأمر من حضور عربي، في شكل أو في آخر، لكن اللافت، وربما المثير للبهجة أيضاً، على رغم تدني المشاركة العربية في شكل عام، هو أن هذا الحضور العربي الصافي هو أولاً وأخيراً، حضور نسائي: السعودية هيفاء المنصور التي تشارك بشخصها لا بفيلم جديد لها في تظاهرة تضم عدداً من الكتاب والمنتجين العالميين يتحدثون عن كيفية حكاية الحكاية في السينما. أما في العروض السينمائية فهناك المخرجة والناقدة المصرية المقيمة في ألمانيا فيولا شفيق من خلال فيلم جديد لها هو «أريج» عن الثورة المصرية، وكذلك هناك جيهان نجيم المشاركة بفيلم «الميدان» المرشح لجوائز الأوسكار. وإلى تلك السينمائيات العربيات يمكن أن نضيف سينمائيين شباناً من الأردن وغيره يأتون بحثاً عن دعم لمشاريع جديدة. في شكل عام يبدو الحضور العربي ضئيلاً... لا سيما إذا قارناه بالحضور الصيني الذي يشمل كل التظاهرات والندوات تقريباً، خصوصاً المسابقة الرسمية حيث تتمثل السينما الصينية وسينمات جنوب شرقي آسيا مجتمعة بما لا يقل عن خمسة أفلام، منها جديد يي لو «المدلك الأعمى» وفيلم الياباني يوجي يامادا «البيت الصغير»... أما سينمات أميركا اللاتينية، فإنها تمعن في حضورها متفوقة على المناطق الأخرى، وذلك أيضاً بدءاً من المسابقة الرسمية حيث تشارك أفلام من الأرجنتين («حكاية الخوف» لبنجامين نيشتات و «الجانب الثالث من النهر» لسلينا مورغا) والبرازيل («رهان المستقبل» لكريم عينوس)... في اختصار يمكن القول إن كل منطقة في العالم لها حصة في هذه الدورة من «برلين»، وكيف لا يكون الأمر على هذا النحو والمهرجان نفسه يضم كل هذا العدد من التظاهرات التي سنعود إلى ما هو رئيسي ولافت منها في رسائل لاحقة؟ فمن تظاهرة المواهب إلى «أفلام الطبخ» ومن «الفوروم» إلى «البانوراما» بدءاً بمسابقة الأفلام الطويلة ومسابقة الأفلام الأولى والعروض الوثائقية ودروس السينما والندوات، وصولاً إلى التكريمات والعروض المستعادة تحتفل السينما العالمية هنا بنفسها وجديدها. ولكنها وسط هذا كله، لا تنسى الإاحتفال بتاريخها في عروض لا شك في أنها ستجتذب أعداداً كبيرة من المتفرجين... عروض تحمل كل الحنين إلى الكلاسيكيات الكبرى وأزمانها وتحمل من العناوين ما هو جدير بأكبر الموسوعات والمتاحف السينمائية: الياباني «خريف متأخر» لياسوجيرو أوزو، البريطاني «كارافاجيو» للراحل ديريك جامان، «عيادة الدكتور كاليغاري» للألماني التعبيري روبرت فاين، وتحفة هيلما ساندرز التي تعود إلى بداية الثمانينات «ألمانيا، أيتها الأم الشاحبة»، إضافة إلى «البطل» للهندي الراحل الكبير ساتياجيت راي، وأخيراً «ثائر من دون قضية» الفيلم الأميركي الذي خلق أواسط سنوات الخمسين أسطورتي مخرجه نيكولاس راي وممثله جيمس دين في وقت واحد.