البراغماتية وفصل المسارات قد تكون أفضل توصيف للعلاقات الجارية حالياً بين تركياوإيران. فالبراغماتية هي التي مكنت الدولتين - الى حد ما - من تطبيق فصل المسار السياسي عن الاقتصادي في العلاقات بينهما، فعلى الصعيد السياسي ليس أفضل من استذكار المشادة الكلامية التي وقعت بين وزيري خارجية إيرانوتركيا في حلقة النقاش حول الأزمة السورية في مؤتمر دافوس، لأخذ صورة أفضل عن الأجواء التي تمت فيها زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى طهران بعد يومين من تلك المشادة، والتي تم تخصيص جزء كبير منها لبحث التعاون الاقتصادي المستقبلي بعد رفع العقوبات ولو جزئياً عن إيران والتي توقعت ارتفاع التبادل التجاري من 13 مليار دولار الى 30 مليار دولار خلال سنوات قليلة عدة من خلال توقيع اتفاقية «التفضيل التجاري» التي تتيح للطرفين إعفاءات وتخفيضات جمركية في التبادل البيني، واتفاقية تشكيل المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين وهي تجربة لم يكتب لها النجاح سابقاً مع كل من دمشقوالعراق. فالخلاف السياسي حول سورية على أشده بين البلدين، والثقة في أدنى مستوى لها، ولا أدل على ذلك من المشهد الذي صورته عدسات الكاميرات لوزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي وهو يتردد في الجلوس الى طاولة التوقيع على الاتفاقية التجارية الجديدة مع نظيره الإيراني، وضغط كل من وزير الخارجية أحمد داود أوغلو ووزير الطاقة طانر يلدز عليه ودفعه باتجاه الطاولة مرغماً، حتى حسم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الموقف بإشارة من يده لوزيره بأن يوقع على الاتفاقية، وسبب تردد الوزير زيبكجي هو أن الاتفاقية التي شهدت سجالاً وأخذاً وجذباً في تحديد سقف التخفيضات الجمركية، وضعت منها على الطاولة الصفحة الأولى فقط بينما تم حجب الجداول التي تفصل تلك التخفيضات والمواد المتعلقة بها، وكان زيبكجي يخشى أن يتلاعب المسؤولون الإيرانيون مستقبلاً بذلك الجدول فيما يظهر توقيعه هو على الصفحة الأولى فقط موافقاً مباركاً. لو أن زيبكجي حاول تبديد هذه الأجواء بعد عودته إلى تركيا وحديثه للصحافة بأن تردده كان بسبب عدم وجود نسخة مترجمة من الاتفاقية إلى اللغة الفارسية وأنه احتراماً للطرف الآخر كان يفضل التريث بدلاً من التوقيع على النسخة الإنكليزية منها، وهو تبرير لم يلق قبولاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية التركية. وفي إطار عدم الثقة أيضاً، وما أن عاد الوفد الزائر إلى تركيا حتى بدأت تتسلل تعليقات سياسية عن جدوى هذا التعاون الاقتصادي مع ايران وخصوصاً في مجال استيراد الغاز الطبيعي الذي تم الكشف أن سعره البالغ 490 دولاراً للمتر المكعب أغلى من نظيره الروسي البالغ 425 دولاراً وكذلك أغلى بفارق كبير عن نظيره الأذربيجاني وسعره 335 دولاراً فقط ، ولم يتردد وزير الطاقة يلدز في تأكيد هذه المعلومة أمام الإعلام التركي قائلاً: «تحدثنا مع أشقائنا الإيرانيين في هذا الشأن وطلبنا تخفيض السعر ويجري العمل على هذا الأمر» . ويرى المحلل السياسي سميح إدز إن تركيا تستخدم ورقة التعاون الاقتصادي للاحتفاظ بعلاقات «طيبة» مع إيران وعدم السماح للخلاف السياسي الكبير بينهما بأن يتحول إلى مواجهة، ويقول: «تركياوإيران نجحتا في فصل مسار التعاون الاقتصادي الذي يصب في مصلحة كليهما عن المسار السياسي الذي وصل الى حد المواجهة تقريباً بسبب الأزمة السورية، لكن هذا التوجه ليس من اختراع حزب العدالة والتنمية، لكنه توجه بدأته الدولة التركية منذ عام 1999 عندما قررت تحسين العلاقات مع إيران تجارياً وهي تعلم أنها تدعم حزب العمال الكردستاني المسلح على الأراضي التركية، وقد ساعدتها سياسة التعاون الاقتصادي في وقت الحصار على ايران إلى دفع طهران لتقليل دعمها للكردستاني وإعلانه حزباً إرهابياً» ويعتبر إدز إن البراغماتية السياسية لدى الدولتين ساعدت على الاحتفاظ بهذا التوجه وهذا الأسلوب في التعامل حتى الآن. لكن الخبير في الشؤون الأمنية نهاد علي أوزجان يقول إن التعاون الاقتصادي بين البلدين لم يؤثر إيجابياً في المصالح التركية في المنطقة، فرغم قبول ايران اعتبار الحزب الكردستاني حزباً إرهابياً، إلا أن دعمها استمر ولو بشكل اقل للحزب وعاد ليظهر مجدداً مع بداية الأزمة السورية للضغط على أنقرة لولا أن تركيا واجهت المسؤولين الإيرانيين حينها بصور وتسجيلات عملائها على الأرض التركية الذين كانوا يحثون الحزب على العودة إلى القتال فأسقط في يد طهران حينها. ويضيف أوزجان «إن أجواء انعدام الثقة بين البلدين واضحة جداً وتحول دون أي تعاون سياسي حقيقي أو من نوع آخر، لكن الدولتين تعلمان أن المواجهة بينهما بشكل علني وبالأدوات المتوافرة لكل منهما سيضر بمصالحهما الإقليمية معاً وسيفسح المجال لأعداء مشتركين لانتهاز فرصة للعمل ضدهما معاً، لكن الخلاف بين البلدين عميق وكبير وله أبعاد أمنية وهذا أخطر ما في الموضوع، فإيران مازالت تتوجس من دور تركيا في مشروع حلف الأطلسي للدرع الصاروخية رغم كل التطمينات التركية، فيما أنقرة ترى في التمدد «الإيراني - الشيعي» في المنطقة خطراً مباشراً يهددها». في المقابل يرى المحلل السياسي قدري غورسال أن الاتفاق المبدئي بين طهران والغرب بشأن برنامجها النووي يشكل فرصة مهمة لتركيا يجب أن تنتهزها من خلال الإسراع في ربط اتفاقيات تجارية مع ايران مشيراً إلى أنه في حال نجاح هذا الاتفاق فإننا سنرى إيران جديدة في المنطقة أكثر قوة ونفوذاً، وليس من مصلحة تركيا معاداة ايران في المستقبل ويضيف «إن التقارير التي تحدثت عن اصطحاب أردوغان لرئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان معه الى طهران وعرضه التعاون بين البلدين من أجل تأمين وقف لإطلاق النار في سورية في حال التوصل لاتفاق سياسي في جنيف، أمر ايجابي لأنه يوظف بشكل صحيح العلاقات المميزة لكل دولة مع أطراف الأزمة، فبدلً من أن تسعى إيرانوتركيا الى تسليح النظام السوري والمعارضة، فالأفضل الضغط عليهما لتنفيذ وقف لإطلاق النار والقبول بحل وسط في سورية». ويستشهد غورسال بتصريحات الرئيس عبدالله غل الموازية لزيارة أردوغان لطهران حول أن التعاون بين البلدين سيكون في مصلحة سورية ووقف العنف فيها، كما يذكر غورسال أن زيارة أردوغان طهران كانت ضرورية بعد تردد الرئيس الإيراني حسن روحاني في زيارة أنقرة بينما كان داود أوغلو توقع حصول تلك الزيارة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. الخبير الأمني نهاد أوزجان يرى أن أجواء انعدام الثقة بين البلدين لن تسمح بهذا النوع من التعاون لأن الانتصار في سورية سيغلّب كفة طرف على الآخر بشكل كبير في المنطقة «لذا فإن طهرانوأنقرة ستعملان شكلياً على وقف العنف في سورية لكن كلاً منهما يعلن انه في الوقت الذي ستلوح في الأفق احتمالات تغيير المعادلات الدولية باتجاه حسم المشهد لطرف ما والتخلي عن الحل السياسي الوسط ، فإن طهرانوأنقرة ستتخليان عن هذا العمل المشترك لمصلحة تحقيق أكبر المكاسب». هناك أيضاً من يرى في زيارة أردوغان طهران محاولة - ولو شكلية - للتخلص من ثوب السياسة الطائفية التي اتسمت بها تركيا في المنطقة مؤخراً بسبب الأزمة السورية ودعمها المطلق لتنظيم الإخوان المسلمين، وليس أفضل من اللقاء مع آية الله علي خامنئي لتبديد تلك الصورة القديمة في المنطقة، وكذلك فإنه ليس افضل من الحديث مع خامنئي وروحاني عن الملف العراقي المقبل على انتخابات برلمانية بعد نحو شهرين، خصوصاً أن محاولات أردوغان الأخيرة للمصالحة مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والتي تجسدت في تبادل الزيارات بين وزيري الخارجية والإعلان عن فتح صفحة جديدة في العلاقات، باءت بالفشل ولم يعلن عن زيارة المالكي لأنقرة كما كان مأمولاً، بسبب الخلاف على ملف النفط الكردي وسعي أنقرة الى شراء نفط كردستان العراق بعيداً من رقابة وموافقة الحكومة العراقية المركزية في بغداد.