بحذر وتحفظ نظر المثقفون الفلسطينيون طويلاً إلى أحد أبرز مبدعيهم الروائي والشاعر والفنان التشكيلي والناقد والمترجم جبرا إبراهيم جبرا الذي تصادف هذه الأيام الذكرى العشرون لغيابه. هو حذر لا يقف عند شخصية جبرا الليبرالي في زمن الثورة والكفاح المسلح وحسب، ولكنه طاول كثيراً نوع الأدب الذي كتبه، وخصوصاً عوالم رواياته وأبطالها وشخصياتها إلى الحد الذي جعل بعضهم ينعته في مرحلة معينة بأنه يكتب «روايات المثقفين» في إشارة سلبية بالتأكيد. جبرا إبراهيم جبرا كان في عام النكبة شاباً ناضجاً أنهى أو كاد، دراسته الجامعية في كمبردج بعدما أنهى تعليمه الابتدائي في مدرسة السريان في بيت لحم ثم في مدرسة بيت لحم الوطنية والمدرسة الرشيدية في القدس ليلتحق بعدها بالكلية العربية وينطلق من هناك إلى كمبريدج بعد أن امتلك اللغة الإنكليزية بقوة. نقول ذلك ونتذكر أن جبرا المولود في بيت لحم عام 1920 كان قد كتب ونشر قبل النكبة روايته الأولى «صراخ في ليل طويل» عام 1946 باللغة الإنكليزية ولكنها لم تترجم للعربية وتنشر إلا عام 1955. هو بهذا المعنى عاش الحياة في فلسطين ككاتب ومثقف واختبر حساسيته الفنية في أتون أحداثها التي كانت توشك أن تفتتح الفصل الأول الكبير في تراجيديا لم يشهد لها العصر مثيلاً بعد ذلك. البحث المضني الذي أمضاه المثقفون وحتى الحركة الثقافية الفلسطينية عن ملامح الشخصية الوطنية الفلسطينية، لم يكن كذلك بالنسبة لجبرا، فجبرا راح يبحث في اتجاه آخر، وتحديداً في اتجاه النخبة الثقافية والسياسية أي عن أولئك الذين يراهم في مقام أكثر إشرافاً على الحياة اليومية بحيث يتمكنون من سبر غموض الواقع وتعقيداته لاستخراج صورة القادم. سنرى كثيراً من هذا بالذات في أعمال جبرا الروائية (يصفها النقاد بأنها روايات مثقفين)، وهي كذلك بالفعل ولكن بذلك المعنى الذي يؤشر إلى العلاقة الوطيدة بين غموض المأساة الواضحة، والتباساتها التي لا تحصى في ظل غياب الوحدة المجتمعية التي بددتها رياح النكبة. لم يذهب جبرا مرة بشكل مباشر نحو «رواية سياسية» بالمعنى المتعارف عليه، حتى في «البحث عن وليد مسعود» روايته التي نادت الفلسطيني «التائه» مرة و «الغائب» أو «المغيب» مرات أخرى، هو لم يفعل شيئاً من ذلك وانغمس بكلية موهبته الفنية في استحضار ما يليق بالتراجيديا من ملامح البطل: يعرف جبرا أنه لا يبحث عن أسطورة بل عن إنسان من لحم ودم، إنسان تخلقه التراجيديا ذاتها لكي ينهض ويقهرها في لعبة تبادل الولادة والموت. في سياق حديث بيننا أواخر الثمانينات وصفت له شيئاً بأنه مستحيل، وأنه حتى وليد مسعود لا يستطيع تحقيقه فضحك وقال نعم وهو فعلاً لم يستطع لسبب بسيط هو أنه بطل تراجيدي لم تكتمل ملامحه النهائية، وأضاف: إنها تكتمل في الغياب!. لم تكن تلك دعابة عابرة بقدر ما كانت هاجس كاتب مبدع يلمح قبل أن يرى، بل سأغامر أكثر وأقول يحلم بصورة بطله: هنا تتواتر تفاصيل المشهد، فالبطل التراجيدي هو بمعنى ما ذلك الذي يمتلك مفاتيح فك طلاسم التراجيديا ذاتها. هل يمكنني بعد هذا القول إن جبرا كان يحلم بانتشار صورة بطله التراجيدي فلسطينياً وعربياً لكي يقلب التراجيديا ويجبرها على الوقوف على قدميها أمام أمة تنهض لتحقيق تحررها ونهضتها؟ هو مبدع الرواية وكاتب الرؤى الشفيفة وقد فعل ذلك باقتدار.