صدر عن وزارة الثقافة القطريّة أخيراً كتاب «الأدب والتكنولوجيا وجِسْر النص المُفَرّغ» للدكتور حسام الخطيب. يعتبر الكتاب من أوائل الكُتُب النقديّة العَرَبيّة التي تُعالج العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا. ونادراً ما تعالَج هذه العلاقة في الساحة الأدَبية العَرَبية، على رغم تزايد ما يمكن تسميته «تَسرّبات تقنيّة» في الإنتاج الأدَبي العربي المُعاصر، خصوصاً الرواية. ويلاحظ أن المؤسّسة الأدَبية العربية تنظيراً وتطبيقاً، ماضية في تجاهلها للهَجْمَة التكنولوجية الكاسحة المُتَصاعِدَة يومياً. مَنْ يغيّرالعالَم؟ بعد قفزات مذهلة في التقنيّات الرقميّة، لم تَعُد المَسألَة بالنسبة إلى الأدب تتمثّل في اعتراف أو استفادة أو حتى لُهاث. إذ تتجِه هذه التكنولوجيا إلى ما يشبه وَضع الهَيْمَنَة التامّة على مرافق الحياة اليوميّة ومستوياتها، ما يعتبر تصديقاً مُعاصِراً لمقولَة أحد مفكري القرن ال19 بأن «التكنولوجيّين هم الذين يغيّرون العالم، لا الفَلاسِفَة». وفي مثل هذا الوضع يجد الأدَب نفسَه بين اختيارَين أحلاهما مُرّ: إما الدخول تحت عباءة التكنولوجيا أسوة بأنواع النشاط الفكري والعلمي للإنسان، وإما أن يقبع في زاوية محصورة جداً ويقنع بالدفء الداخلي والحدّ الأدنى من الإشعاع. في الولاياتالمتحدة حاضِراً، لا تجد دواوين الشِّعْر مَكاناً لائقاً إلا على البسطات في الحدائق العامة وبعض الأحياء المتواضِعَة. ولطالما جرى الحديث عن التحدّيات التكنولوجيّة وأيضاً المساعدات التكنولوجية للدراسة الأدَبية من خارج الظاهرة الأدَبية. وفي المقابل، ثمة تحدّ صميمي يدخل إلى قلب الظاهرة الأدَبية وبنيتها وشكلها المادي الذي تتمثل فيه، وهو الكِتابة. فالمناداة بالعدول عن الكِتابة السطرية، وتبني طريقة النص التكويني بمستوييه المُفرّع «هايبرتكست» Hypertext، وما يُمكن تسميته ب «المُرَفّل» بمعنى «هايبرميديا» Hypermedia، لا يعني مجرد تغيير أداة تمثيل التعبير الأدَبي وتجسيده وتدوينه، بل ينطوي أيضاً على عملية تثوير جذرية للإنتاج الأدَبي: دِراسَة ونَقْداً وتَنْظيراً وربما إبْداعاً أيضاً. تمثّل الكلمات السابقة موضوع كتاب «الأدَب والتكنولوجيا وجِسْر النص المُفَرّغ» الذي يهدف إلى التعريف بهذه الصَّيحَة الجديدة التي بدأت تتردّد أصداؤها في أميركا الشمالية وأوروبا، إضافة إلى وضعها في إطار العلاقة المتطوّرَة بين الأدَب والتكنولوجيا. كما يسعى الكتاب للفت الأنظار إلى أن المَسألَة ربما لا تكون مُجَرّد «تقليعَة» أو بِدْعَة، ويجب عدم أخذها باستخفاف. ويورد المؤلّف تجربته مع جمهور الأدَباء عبر محاضرات عامة ألقاها عن هذه المسألة، فكانت الاستجابة متراوحة بين الإنكار الشديد والتشكّك والارتياب، وصولاً إلى السلبيّة وعدم الاكتراث. والمفارقة، أن الاستجابات الوحيدة غير السلبيّة على تلك المحاضرات، جاءت من مستمعين لا ينتمون إلى المؤسسة الأدَبية! استهزِئ بالتقنيّة تهمّشْك في السياق عينه، يوضح المؤلّف أنه صحّ لديه القول بأن التكنولوجيا سلاحٌ ذو حَدّين، فلربما استفادت منها المؤسسة الأدَبية أو ربما تقوّضَت على يديها. ويلفت إلى أن الخيار الأفضل يتمثّل دوماً في البحث عن الجوانب الإيجابية وكيفية الإفادة السليمة منها. ويرى أن أسوأ ما يمكن أن تفعله المؤسسة الأدَبية هو تجاهل المتغيّر التكنولوجي والاستهزاء به، ما يؤدي إلى الإمعان في تهميش الأدَب في عالم التكنولوجيا المقبل. وعبر مقارنة بين الأدَب وفنون أُخرى، نجد أن فنون الرسم والموسيقى والنحت والتصوير استفادت كثيراً من التكنولوجيا الرقميّة، ويدرج هذا في أسباب تجاوب الناشئة معها. ويتوقّع أن تؤدي محافظة المؤسسة الأدَبية، خصوصاً العربيّة، يومياً إلى ابتعاد الأدَب عن خضم حركة المجتمع، بل تحصر بجمهور محدود. وفي ظل هذا الانغلاق، تبدو معارك الأدب المعاصرة وكأنها نوع من الديالكتيك المُغْلَق أو زنى المَحارِم. ويلفت إلى أن انصراف الأجيال الصاعِدَة عن استهلاك الأدَب هو ظاهرة ينبغي أن تثير القلق، مع تأكيد إحساسِه بأن الانصراف عن الأدَب محصور بفئة المستهلكين (أي القُرّاء) أما فئة المنتجين (الأدَباء) فهي في تزايد مُسْتَمِر. ويرجِع تزايد الأدباء إلى عوامل تشمل الإحباط الجماعي والفرص المحدودة للتخصّصات التقنيّة في النظام التعليمي، وانغلاق سوق العمل وغيرها. من المستطاع القول إن ما تقدمه دراسة حسام الخطيب ليس إلا تعريفاً مبدئياً، لكنه شامل، بطريقة الكِتابة الحاسوبية المقترحة، مع تركيز على علاقة هذه الطريقة بدراسة الأدَب وتدريسه ونقده والتنظير له، بل ربما إنتاجه أيضاً. ويأتي هذا التعريف في هيئة تَصوّرات عامة حول تطوّر العلاقة بين الثقافتين الأدَبية والتكنولوجية، وربما قوة استمرار التيار الأدَبي العريق في وجدان الأجيال، وهو موضوع القسم الثاني من الكِتاب. ويتضمّن القسم الثالث من الكِتاب ملاحق الدراسة وقائمة بالمصطلحات الجديدة المتعلِّقة بالنص المُفَرّغ. ويبدو هذا الأمر كأنّه محاولة لاستباق المصطلحات المناسبة قبل أن تُدرج مُصطلحات أخرى فتسدّ الطريق على المصطلح الصحيح. وبُنيت مصطلحات الكتاب كلها على أساس مُراعاة البُعدَيْن الدَّلالي (وليس المعنى اللغوي وحده) والتراثي، ربما على سبيل الاستئناس. * كاتب مصري