ودع لبنان أمس، رسمياً وشعبياً، المطربة الكبيرة صباح التي كانت رحلت الأربعاء الفائت عن 87 عاماً، في مأتم مهيب اختلط فيه الحزن والفرح، الوداع والاحتفال. ولعله المأتم الأول من نوعه يتحول إلى عرس شعبي. وتقدم المشيعين ابن المطربة الدكتور صباح شماس الذي جاء من الولاياتالمتحدة حيث يقيم منذ أعوام طويلة، وبنات شقيقاتها وسياسيون وديبلوماسيون وفنانون، وتغيبت ابنتها هويدا لأسباب صحية بعد انهيارها لدى علمها بوفاة والدتها. وكان مئات اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم، توافدوا منذ الصباح إلى قلب بيروت ليشاركوا في مأتم المطربة التي رافقتهم أعواماً بصوتها العذب وأغانيها الأليفة والجميلة والبهيجة. مئات تجمعوا في الشارع الممتد بين ساحة البرج وساحة رياض الصلح، ولكن ليس ليتظاهروا سياسياً كما جرت العادة في الساحتين، ساحة 14 آذار وساحة 8 آذار، بل ليهتفوا لصباح ويودعوها ويرموها بأوراق الزهر والورد والأرز، جاعلين من مأتمها عرساً عاطفياً، شعبياً ووطنياً، نزولا عند رغبتها، هي التي أوصت جمهورها قبيل رحيلها ألاّ يبكي عليها ويعلن الحداد بل أن يحتفل بها وكأنها ما زالت على قيد الحياة. وما إن وصل موكب الجثمان الذي انطلق من الحازمية وضم سيارات من البلدات المحيطة بمسقطها بدادون، حتى ارتفعت الهتافات و «الزلاغيط» والأغاني مرحبة، ولم تتمالك بضع نسوة وفتيات أنفسهن من الرقص بباقات الورد وصور مطربتهن. وعلى إيقاع ألحان أغانيها، ومنها «تسلم يا عسكر لبنان» التي عزفتها إحدى الفرق الموسيقية للجيش اللبناني، راح محبوها الذين حملوا نعشها المغطى بعلم لبنان على الراحات، يرقصون به رقصة الوداع، محتفلين بالمطربة التي صنعت ربيع الأغنية اللبنانية. وأمام البوابة الكبيرة لكاتدرائية مار جرجس المارونية، صفّت الأكاليل وباقات الزهور وقد أرسلها سياسيون وفنانون وأقارب، ومنها إكليل من المطربة فيروز وحمل جملة «صباح شمسك لن تغيب». أما الباحة الجانبية للكاتدرائية فتحولت الى مسرح ارتفعت على جوانبه صور لصباح وعقدت فيه حلقات الدبكة تؤديها فرقة بلدية على وقع الأغاني. بدا المأتم مؤثراً جداً، وإن كان متوقعاً أن تشارك فيه أعداد أكبر تملأ الشارع والساحات، وهذا ما عبر عنه الكثيرون من المودعين، وقال أحد الفنانين ل «الحياة» إن نقابة الفنانين اللبنانيين قصّرت في حق المطربة الكبيرة، وكان لديها بضعة أيام لتنظم برنامجاً وداعياً يليق بها وبأسطورتها. ورأس الصلاة في الكاتدرائية البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الذي لم يكن مقرراً حضوره، لكنه خالف برنامج التشييع وألقى كلمة استعاد فيها محطات في حياة الراحلة الكبيرة. وبعد انتهاء مراسم الجنازة التي حضرها رئيس الوزراء تمام سلام وعدد من الوزراء والنواب، استعيد الاحتفال خارج الكاتدرائية بعد توافد مزيد من المواطنين، وعندما وضع النعش في السيارة بصعوبة، نظراً إلى تجمع المودعين حوله، راح الجميع يلوحون بأيديهم وسط الهتافات والزغاريد. وانطلق الموكب الى بلدة بدادون لإقامة الصلاة في كنيسة البلدة قبل مواراة جثمان الفقيدة. وفي القرى المحيطة ببدادون، وادي شحرور وحومال وبليبل، كانت حشود في انتظار الموكب الذي استقبلته بالزغاريد والورود وحلقات رقص الدبكة والسيف والترس. ولئن كان الحضور الرسمي خجولاً ومتوائماً مع ضمور الدولة بمفهومها ومؤسساتها في لبنان، سُجل حضور فني لبناني واسع من مغنين وممثلين الى جانب وفد مصري تقدمه سمير صبري ولبلبة وإلهام شاهين وليلى علوي. وقالت لبلبة: «لن ننسى صباح، الشعب المصري كله يبكيها»، وروت أن المصريين الذين شاهدوا الوفد في مطار القاهرة متجهاً إلى بيروت، توافدوا لتقديم التعزية وطلب نقل التعازي الى اللبنانيين. وأضافت: «أعزي الدنيا كلها بحبيبة قلبي صباح. عمر طويل بيني وبينها، اشتغلت معها وأنا في السن الثامنة من عمري فيلم «يا ظالمني»، ومنذ ذلك الحين بقينا على تواصل». وقالت المغنية اللبنانية ماجدة الرومي: «صباح لها فضل على اللبنانيين والعرب، لم تغب عن أفراحنا ولا أحزاننا، واجبنا اليوم أن نحييها كفنانة عظيمة». وقال المطرب اللبناني راغب علامة: «صباح هي وطن. هي من الفنانات الكبيرات اللواتي حملن الأغنية اللبنانية الى العالم. بنت جسور التواصل بين العالم العربي. هي علمتنا أن نكون جسور التواصل». وتدخلت الإعلامية المصرية بوسي شلبي لتقول «إن صباح هي مصرية كما هي لبنانية. هي هرم من أهرامنا». يذكر أن صباح، أو «الشحرورة» كما يسميها محبوها، رحلت فجر الأربعاء عن 87 عاما تمسكت خلالها بالأناقة والحضور الإعلامي حتى الرمق الأخير، بعد ستين عاماً من العطاء الفني كانت خلالها من ابرز وجوه الفن والسينما في العالم العربي.