على رغم اعتراضات بولندا وتشيخيا وابتهاج روسياوإيران، لا يشكل سحب الولاياتالمتحدة لمشروع الدرع الصاروخية نهاية المساعي الرامية الى إنشاء منظومة تتصدى للصواريخ الآتية من دول في الشرق الأوسط أو غيره من المناطق. وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما أعلن في 17 أيلول (سبتمبر) الجاري تخلي بلاده عن إقامة مشروع الدرع الصاروخية في بولندا والجمهورية التشيخية، والاستعاضة عنه بنظام جديد سيكون أقل كلفة وأكثر مرونة وقدرة على التعامل مع التهديدات التي تستهدف الولاياتالمتحدة وأوروبا. وكانت الولاياتالمتحدة أعلنت في أوائل عام 2007 عن نيتها إقامة مشروع الدرع الصاروخية في شرق أوروبا، مبررة ذلك بدعوى رغبتها في التصدي لصواريخ يمكن أن تطلقها «دول مارقة» مثل إيران أو كوريا الشمالية. غير أن الروس رأوا في المشروع خطوة أميركية متقدمة في سياسة تطويق بلادهم واحتوائها. وعلى مدى أكثر من عامين ونصف عام كان المشروع سبباً قوياً في توتر العلاقات الأميركية – الروسية لدرجة دفعت البعض للحديث عن عودة «الحرب الباردة» بين الدولتين. لذا حظي قرار أوباما إلغاء الدرع بترحيب حار في روسيا، إذ أثنى الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف على القرار واصفاً إياه ب «الخطوة الصحيحة». في حين وصفه رئيس الوزراء فلاديمير بوتين بالقرار «الصائب والشجاع» معبراً عن أمله في أن تتبع هذا القرار خطوات أخرى إيجابية من واشنطن، من بينها رفع الحواجز التي تحول دون تحويل التقنية العالية إلى موسكو رفعاً تاماً والسماح لبلاده وكازاخستان وروسياالبيضاء بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فضلاً عن إعلان موسكو عن تجميدها مشروع نصب صواريخ «اسكندر» في جيب كاليننغراد الواقع بين بولندا وليتوانيا، بل وإعلانها أنها ستعيد النظر في إجراءات عسكرية أخرى كانت اتخذتها رداً على الخطوة الأميركية. وعلى رغم أن روسيا نفت تقارير تشير إلى إن نشر الدرع ألغي بموجب صفقة سرية تقبل بموجبها التشدد مع إيران، لكن تصريح الرئيس ميدفيدف بأن: «روسيا ستكون أكثر حرصاً على الاستماع إلى دواعي القلق الأميركي بعد قرار تعليق الدرع الصاروخية»، يؤكد وجود صفقة من نوع ما في شأن إيران والدرع الصاروخية. وقد لمح ميدفيديف في 16 أيلول الى أن بلاده لا تمانع في فرض حزمة جديدة من العقوبات على إيران إذا لم تتعاط في شكل إيجابي مع المقترحات الغربية لتسوية الملف النووي. وأفاد مصدر ديبلوماسي لصحيفة «كومرسانت» الروسية الصادرة في 18 أيلول، أن واشنطن تريد مقابل التخلي عن مشروع الدرع المضادة للصواريخ أن تعتمد موسكو موقفاً أكثر حزماً حول البرنامج النووي الإيراني، وأن تعدل عن بيع طهران نظام الدفاع المضاد للطيران «اس-300». كما قال مصدر كبير في الكرملين إن قرار الولاياتالمتحدة فتح الباب لتعاون أكبر للحد من التسلح ومنع الانتشار النووي. في المقابل، فإن قرار أوباما إلغاء الدرع أثار قلق دول عدة في شرق أوروبا وحوض البلطيق كانت تنظر إلى الدرع الصاروخية على أنها التزام أميركي بالدفاع عنها في وجه ما تراه توسعاً روسيا. وتخشى هذه الدول أن يكون تحسين العلاقات بين واشنطنوموسكو على حسابها. وزاد الطين بلة أن قرار التراجع عن الدرع جاء في لحظة رمزية بالغة في بولندا التي تحيي الذكرى ال70 لاجتياح القوات السوفياتية الجزء الشرقي منها بعد أسبوعين من الاجتياح الألماني للجزء الغربي في أوائل أيلول عام 1939. ووصف رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك قرار واشنطن الأخير بأنه يمثل هزيمة لبولندا لأن بناء الدرع الصاروخية كان يمكنه أن يعزز الأمن الأوروبي عموماً والبولندي على وجه الخصوص فهذا القرار وضع بولندا في موقف حرج للغاية، حيث وجدت الحكومة البولندية نفسها في ورطة كبيرة، ليس فقط مع روسيا التي ناصبتها بولندا العداء طيلة السنوات الخمس الماضية بسبب قضية نشر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيها بالقرب من الحدود الروسية، بل أيضاً وجدت بولندا نفسها في موقف لا تحسد عليه أمام شركائها في الاتحاد الأوروبي. حيث استخدمت بولندا أكثر من مرة حق الفيتو داخل الاتحاد الأوروبي معترضة على تجديد اتفاق الأمن والتعاون المشترك مع روسيا، وشنت بولندا حملة قوية داخل الاتحاد ضد روسيا متهمة إياها باتهامات عدائية، خصوصاً بعد الحرب في القوقاز في آب (أغسطس) 2008. يذكر أن نظيره رئيس الوزراء التشيخي السابق ميرك توبولانك - الذي انهارت حكومته بسبب المعارضة الشعبية القوية لمشروع نصب نظم الرادار الأميركية في أراضي بولندا - وصف هو الآخر قرار أوباما الأخير بأنه أسوأ خبر سمعه خلال الأسابيع الماضية. وواجه مشروع الدرع الصاروخية الكثير من الصعوبات الفنية والسياسية والاقتصادية منذ إعلان الإدارة الأميركية السابقة عن رغبتها في الشروع فيه. هذه الصعوبات جعلت من خيار «التأجيل» أو «الإلغاء» أمراً مرجحاً منذ فترة طويلة. فالمشروع يهدف إلى إقامة نظام دفاع صاروخي طويل المدى، عبر بناء شبكات حماية مكونة من أنظمة صواريخ أرضية، مستندة إلى نقاط ارتكاز عدة، قادرة على إسقاط أي صاروخ باليستي عابر للقارات يستهدف الأراضي الأميركية. ووفقاً لبيانات «وكالة الدفاع الصاروخي» التابعة للبنتاغون، فإن الوكالة تخطط لنصب عشرة صواريخ اعتراضية طويلة المدى في بولندا، بكلفة قدرها 4 بلايين دولار سنوياً، إضافة إلى موقع راداري متطور في الجمهورية التشيخية، بكلفة تصل إلى 5 بلايين سنوياً أيضاً، لتبدأ العمل كمنظومة متكاملة بحلول عام 2013. ويماثل التصميم الخاص بالصواريخ الاعتراضية، تصميم صواريخ الدفاع الثلاثي الاعتراضية المنصوبة حالياً في آلاسكا وكاليفورنيا. وتعكف الوكالة، بالتعاون مع شركة «بوينغ»، على إزالة أحد المحركات في التصميم الحالي للصواريخ الاعتراضية، لبناء صواريخ دفع تطلق على مرحلتين، وهو شرط الوفاء بالمتطلب الجغرافي ومتطلبات الارتفاع اللازمة لمواجهة الصواريخ المقبلة من الشرق الأوسط. وإضافة إلى تلك الصعوبات الفنية، فإن مشروع الدفاع الصاروخي يواجه تدقيقاً مالياً أشد صرامة من جانب الديموقراطيين في الكونغرس، حيث قرر مجلس النواب في 17 أيار (مايو) 2007، خفض الاعتمادات المالية التي طلبها البنتاغون لهذا المشروع، وذلك بحوالى النصف. وثمة أيضاً مصاعب في المفاوضات التي بدأتها واشنطن، منذ كانون الثاني (يناير) 2007، مع كل من بولندا وتشيخيا للموافقة على استضافة القاعدتين الصاروخية والرادارية. وإن اعتبرت حكومتا الدولتين أن مجرد وجود سلاح دفاعي متطور على أراضيهما يمثل «ضمانة أمنية مهمة»، فإن الرأي العام في بولندا، وفقاً لاستطلاعات اجريت أوائل حزيران (يونيو) 2007، يعارض بنسبة 57 في المئة استضافة صواريخ أميركية في بلاده. كما يعارض 61 في المئة من التشيخيين إقامة نظام راداري قوي على أرضهم. من ناحية ثانية، تثير الدرع الصاروخية الأميركية قلقاً لدى دول الاتحاد الأوروبي، إذ يفضل الأوروبيون مشروعاً يشملهم في إطار حلف «الناتو». غير أن وصول إدارة أوباما الديموقراطية في ظل الأزمة المالية العالمية، جعل الولاياتالمتحدة تعيد، بصورة جذرية، النظر في هذا المشروع المكلف اقتصادياً والمثير للجدل سياسياً وعسكرياً. وقبل هذا وذاك سعت الى تهدئة مخاوف روسيا حول الدرع الصاروخية، في ظل رغبة إدارة أوباما لتحسين علاقاتها مع روسيا قبيل زيارة الرئيس الروسي ديميتري ميدفيدف إلى واشنطن للمشاركة في أعمال قمة الجمعية العامة للأمم المتحدة والقمة الاقتصادية لمجموعة الدول العشرين. إذ ذكرت مصادر أميركية أن قرار تعديل مشروع الدرع الصاروخية يهدف أيضاً إلى تقديم حوافز أخرى لروسيا لدعم التوجه الدولي بخصوص الملف النووي الإيراني ومسائل إقليمية ودولية أخرى. ووفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»: فإن القرار يستند إلى تقديرات بأن خطط إيران لتصنيع الصواريخ بعيدة المدى ليست متقدمة كما كانت تخشى الحكومة الأميركية السابقة. إذ خلص تقرير أعده فريق فني مشترك من العلماء الأميركيين والروس مكون من 12 عالماً ويقدمه معهد «إيست ويست» المستقل، ونشر في 19 أيار الماضي، إلى أن الدرع الصاروخية التي تنوي الولاياتالمتحدة نصبها لحماية أوروبا من هجوم إيراني محتمل لن تكون مجدية في مواجهة أنواع الصواريخ التي قد تُقدم إيران على نشرها. وكانت الإدارة الأميركية لمحت في وقت سابق إلى الآلية التي ستتبعها في شأن مشروع الدرع الصاروخية. ففي مؤتمر عسكري عُقد في آب الماضي، لمح الفريق كارترايت إلى احتمال أن تكون واشنطن أخطأت في تقديراتها في شأن الوقت الذي قد تستغرقه إيران لتطوير صواريخ بعيدة المدى، في إشارة مبطنة إلى احتمال تراجع الولاياتالمتحدة عن الخطة الأصلية المعدلة لمشروع الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية. وبحث المسؤولون العسكريون في ذلك المؤتمر البدائل الممكنة للمشروع بما في ذلك نصب أنظمة اعتراض صاروخية قصيرة المدى في دول مجاورة لإيران، في الوقت الذي بحث الفريق كارترايت فكرة مشاركة الولاياتالمتحدة مع دول أخرى في برامج خاصة بالمراقبة والتصدي للصواريخ الإيرانية. وفي هذا السياق، ذكر بعض الخبراء أن استخدام أجهزة المراقبة المزدوجة - بما فيها تلك الموجودة في منطقة الخليج - ستساعد نظرياً على توفير درع جزئي على الأقل لأوروبا الشرقية من دون الحاجة لنصب نظام دفاعي كامل على مقربة من روسيا. وفي محاولة تبريره لقرار التخلي عن الدرع الصاروخية، قال أوباما إنه يتصرف بناء على توصية مشتركة من جانب وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة، مشيراً إلى أن قراره يعكس التطور الذي تحقق في مجال التكنولوجيا الصاروخية منذ إعلان بوش عن خطته لنشر درع صاروخية في أوروبا ويعكس التقويم الجديد للبرامج الصاروخية الإيرانية. وقال انه يريد نظاماً دفاعياً يستخدم تكنولوجيا مثبتة وفعالة أكثر من النظام الذي أيدته الإدارة السابقة، مضيفاً أن «الهيكلية الجديدة للدفاع الصاروخي في أوروبا ستؤمن الدفاع الأقوى والأكثر ذكاء والأكثر مرونة للقوات الأميركية وحلفاء أميركا». وبحسب وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، فإن الأمر لا يتعلق بإلغاء الدفاع الصاروخي عن أوروبا، لأن هناك نظام حماية جديداً يشمل: المرحلة الأولى: تنشر في جنوب أوروبا وشمالها عناصر دفاعية أميركية مضادة للصواريخ تشمل منظومة «ايغيس» التي يتم تزويد السفن الحربية بها وتسمح بمتابعة تقدم الصواريخ العدوة، إلى جانب صواريخ اعتراضية بحر جو من طراز «اس ام-3» («بلوك آي ايه») مصممة لتدمير الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى، وشبكة لأنظمة الكشف. المرحلة الثانية: تنشر في 2015 صيغة محسنة من «اس ام-3» (بلوك آي بي) في البحر وعلى البر ليتم توسيع منطقة الحماية من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا. وتجري الولاياتالمتحدة مفاوضات مع تشيخيا وبولندا لاستقبال نسخة برية من صواريخ «اس ام-3» ومكونات أخرى من المنظومة. المرحلة الثالثة: تنشر في 2018 نسخة أكثر تطوراً للصاروخ «اس ام-3» (بلوك آي آي ايه) يجري تطويره حالياً. المرحلة الرابعة: ينشر في 2020 النموذج الأكثر تطوراً لصاروخ «اس ام-3» (بلوك آي آي بي) الذي سيكون قادراً على اعتراض صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى وكذلك صواريخ بعيدة المدى يمكن أن تهدد الولاياتالمتحدة. وأبلغ باتريك كلوسون، الخبير في معهد «واشنطن للشرق الأدنى» أن الخطوة «يجب أن تقلق الإيرانيين، خصوصاً أنها تأتي بعد أقل من أسبوع على إعلان تركيا شراء صواريخ اعتراضية ب 8.7 بليون دولار». وأشارت الصحف التركية الصادرة في 14 أيلول، إلى غضب الساسة الأتراك بسبب تحدث واشنطن علانية حول الصفقة التي قد تؤدي إلى توتر في العلاقات بين تركيا وإيران. ونقلت قناة «سي ان ان» التلفزيونية التركية عن البيان الأسبوعي للجيش التركي قوله إن تكاليف صفقة شراء محتملة لصواريخ باتريوت من الولاياتالمتحدة ستصل إلى بليون دولار وليس 8.7 بليون دولار كما نقل في وقت سابق. ولمّح كلوسون إلى أن نصب هذه الصواريخ في تركيا أو اليونان أو أماكن أخرى جنوب شرقي أوروبا، «يمنحها فاعلية أكبر». لكن يمكن توقع رفض إسرائيل لفكرة نقل الدرع الصاروخية الأميركية المزمع تأسيسها من بولندا والجمهورية التشيخية إلى إسرائيل وتركيا. ففي حين يرى البعض أن إقامة تلك الدرع الصاروخية في إسرائيل سيمنحها أهمية إضافية بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، لكن البعض الآخر يرفض بشدة القبول بها إذا كانت ستؤدي إلى استرخاء أميركي في مواجهة المشروع النووي الإيراني بما قد يمكن إيران من امتلاك القنبلة الذرية. مثل هذا الخلاف قد يجهض فكرة نقل الدرع الصاروخية من بولندا وتشيخيا إلى إسرائيل وتركيا لكن ربما يكون المخرج هو أن يكون القبول الإسرائيلي مشروطاً بقرار أميركي يقضي بوضع نهاية للبرنامج النووي الإيراني سواء عبر ضغوط اقتصادية حقيقية قادرة على إجبار طهران على الاستسلام أم من خلال عمل عسكري قوي قادر على وضع نهاية حاسمة لهذا البرنامج. ويجب القول إن إدارة أوباما تخطط كذلك لبناء نسخ أكثر تطوراً من هذه الصواريخ - يُنصب بعضها في البر وليس في البحر - إضافة إلى نصب نُظم رادار فائقة الكفاءة على طراز تلك التي كان مقترحاً نصبها في الجمهورية التشيخية. وربما تُنصب نظم الرادار الجديدة في منطقة جبال القوقاز. وهذا ما دعا بعض الجنرالات والمسؤولين العسكريين الروس للتعبير عن قلقهم إزاء هذه الخطوة. وفي هذا السياق يمكن التذكير بالاقتراح الذي أعلنته وزيرة الخارجية الأميركية في 22 تموز (يوليو) الماضي خلال مشاركتها في قمة «آسيان» بتايلاند، والخاص بإنشاء «مظلة دفاعية» في منطقة الخليج لحمايتها من إمكانية حصول إيران على أسلحة نووية. ومن الناحية الفنية فإن هذه المظلة بالغة التعقيد، نظراً الى قصر مسافة الرصد، واتخاذ وضع الاستعداد للردع في محيط لا يتجاوز 150 كيلومتراً، حيث تتقارب الحدود بين دول الخليج وطهران. ومن ثم، فإن المظلة ستتخذ شكل نصف قوس كامل، يمتد من غرب إيران من قزوين وصولاً إلى منطقة بحر العرب، مروراً بالبلقان والبحر الأحمر وباب المندب وشرق أفريقيا. وتتكون هذه المظلة الدفاعية من مجموعة من نظم البطاريات المضادة للصواريخ «باتريوت»، ومراكز تحميل معلومات رئيسية، وقواعد اتصالات مركزية. وستتضمن المظلة أيضاً طائرات أواكس (Awacs) من نوع «بعيد المدى»، وستقوم الولاياتالمتحدة بتزويد القاهرة والرياض بهذه المنظومات الحديثة. * كاتب مصري