يقول الخبر: إن المخترع السعودي واسمه عبدالله العتيبي انهالت عليه العروض من دول العالم لاستخدام منتجه في تقنية النانو بمقدم قدره خمسة ملايين وخمسون ألف باوند. فماذا اخترع العتيبي؟ غطاء حماية وضماد حديث الفكرة والاستخدام في المجال الطبي، ويتكون من البلاستيك الشفاف، يمكن الاستفادة منه مع الأطفال والمعوقين عقلياً في حماية الجروح المكشوفة، والعمليات الصغيرة من الصدمات التي يتعرض لها هؤلاء أثناء الحركة. وإلى هنا والكلام رائع، فأين الإشكالية؟ في التجاهل الوطني التام للاختراع. على رغم الاهتمام الدولي والإقليمي له، ممثلاً بالصين ولندن وحتى دبي. ما حدا بصاحبه بعد تأكده من صعوبة حصوله على الدعم المحلي – بحسب قوله- إلى قرار السفر إلى لندن. وبخاصة أن اختراعه مسجل في 148 دولة حول العالم، ومنها الولاياتالمتحدة لدى مكتب براءة الاختراع والعلامات التجارية الأميركية. فمن هذه الناحية والاعتراف بأهمية الاختراع والتصديق الدولي عليه، ليس لدى العتيبي ما يشتكي منه. ولكنه الحزن الذي يؤرقه وشعور بالقهر لم يتغلب عليه لكون السبق لم يأت بمبادرة وطنية وإنما أجنبية. ولو جُسِّدت هذه القصة في فيلم لكانت لقطة الختام والبطل متأملاً مدينته التي غادرها من نافذة طائرته المتجهة إلى لندن بعبارة ينهي بها مغامرته ويقول: «ما أجملك يا ديرتي من فوق!». فلا تُعرف المدينة من شوارعها وعماراتها وأسواقها وسياراتها، ولكن من أنظمتها الداخلية وقوانينها حين تتعامل معها بنفسك، وليس بمن توكله بالإنابة. وعندها فقط تستطيع تقدير جمالها الحقيقي والقول بثقة أنك عرفت المدينة وناسَها. ولماذا ناسُها؟ لأن الأمور لا تجري من تلقاء نفسها، ولكن يديرها أهلها. ومن هؤلاء تستكشف معادن القيادة والإدارة التي تتحكم بمعاملاتك وأوراقك. فكيف وجدتها.. معطّلة أم ميسّرة؟ وأرجوك لا تجب على السؤال إن كنت من ذوي الأسماء والمحسوبيات والخدمة الفورية برفع سماعة الهاتف على فلان وعلان. فإجابتك لن يعتد بها، لأنها لن تفيد كثيراً. وإنما يكون القياس والمقياس بإجابة المواطن البسيط، وتقويمه لخدمة النظام له. قيل: إن من عادات سقراط قبول الهدايا من تلاميذه. ولكن الطالب «إيشين» كان فقيراً مدقعاً فلم يجد ما يهديه لمعلمه غير نفسه. بل إنه لم يعِ حجم فقره إلاّ في ذاك اليوم. محدِّثاً معلمه ألاّ يحتقر هديته. فإن كان غيره أهدى إليه الكثير، فقد أبقى لنفسه أكثر. أمّا هو فقد قدّم كل ما لديه. فأجابه سقراط: «وكيف تزعم أنك أهديت إليّ شيئاً قليلاً، إن لم تكن نفسك عندك كذلك. وقد وجب عليّ تقبلها والاعتناء بها حتى أردّها إليك بعد تثقيفها بالعلم أحسن مما أخذتها منك». وهذه النفس الكريمة التي تعطي دائماً. وكل جود يقارن بالموجود. فهذا جاد بنفسه، وذاك جاد بعلمه. وهذه بضاعتهما. تماماً كما جاد عبدالله العتيبي باختراعه وعصارة عقله، فلم يجد في الجهة المقابلة من يستقبل عطاءه، أو يكافئه عليه مادياً ومعنوياً. وبخاصة أن مسؤول هذه الجهة هو المخوّل بذلك، فلا هي منّة منه ولا فضل. غير أنه تخلى عن واجبه مع علمه جيداً بتضرّر الوطن من إهماله، ثم نسأل كيف نخسر وتتردى أوضاعنا؟ بكلمة واحدة: المفرِّطون. يقول المفكر السياسي الإيرلندي إدموند بيرك: «الأمر الوحيد والضروري لانتصار الشر يكون في عدم قيام الصالحين بما عليهم». وهذا صحيح، فرب عمل فردي واحد يكون مناسباً في أهميته وتوقيته، ويقلب المعادلة ويغيّر في قواعد اللعبة المستهلكة. ثم وبالمنطق نفسه يغيب هذا العمل الفردي الواحد فلا شيء يتغيّر إلاّ إلى الأسوأ والأتعس. فلا نستهين إذاً بقيمة وتأثير العمل الواحد. ومن عمل إلى مجموعة أعمال. فأين هم هؤلاء الصالحون المناسبون الذين يغيّرون؟ موجودون فلم نعدمهم بعد، ولكنهم محبَطون. وهذه علتهم، وهذا بلاهم. والأخطر أن يتحول إحباطهم إلى تفريط آخر بدوره. فننتهي بمفرطين عن سبق وإصرار، وآخرين متحوّلين. ولا يحمي ويقوي في حال فوضوية كهذه سوى الثبات على المبدأ. نعم، هو المبدأ... فما الدنيا كلها إلاّ إيمان بك يا إنسان، وحجة عليك. [email protected]