تشهد الصحافة الورقية اليوم أزمة حقيقية في أرجاء العالم. ويوماً بعد يوم، تتجسّد الأزمة في إقفال الكثير من الصحف المهمّة أو تقليص أرقام توزيعها وتسريح مئات العاملين فيها. ففي العام الماضي، ودّعت مجلة «نيوزويك» عالم الصحافة الورقية لتكتفي بنسختها الإلكترونية، بعدما تكبّدت خسائر مالية فادحة بسبب تراجع مبيعاتها وعائداتها من الإعلانات وانتفال القراء الى المحتوى المجاني على شبكة الإنترنت. وكانت صحيفة «كريستيان سيانس مونيتور» سبقتها في هذه الخطوة، بسبب العجز المالي أيضاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى صحيفة «فرانس سوار»، إحدى أشهر الصحف الفرنسية. وفي مقابل «الانتكاسة الورقية»، يعيش الإعلام الرقمي فورة كبيرة مع ظهور مواقع إلكترونية إخبارية جديدة. ومن أبرز الخطوات النوعية في هذا المجال، الانطلاقة القوية التي يشهدها موقع «ياهو!» الإخباري، الذي يدخل إليه حوالى مئة مليون مستخدم شهرياً وفق موقع «أليكسا»، وهو رقم ضخم جداً مقارنة بالتوزيعات الشهرية للصحف. فالصحيفة التي تأتي في المرتبة الأولى ضمن الصحف الأكثر توزيعاً في الولاياتالمتحدة الأميركية، مثلاً، هي «وول ستريت جورنال»، وتوزّع نحو مليونين وثلاثمئة ألف نسخة يومياً، ما يعادل نحو 69 مليون نسخة شهرياً، وبالتالي ما زالت غير قادرة على كسر حاجز المئة مليون، وهو إنجاز حقّقه موقع «ياهو!» الإخباري. كما أنّ المواقع الإلكترونية، خصوصاً الإخبارية منها، في توسّع مستمر بسبب الإقبال الكبير الذي تشهده. فموقع «هافينغتون بوست» الإخباري الأميركي الذي أسّس في عام 2005، بات اليوم متوافراً بست لغات: (الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية، الألمانية واليابانية)، وهو في صدد التوسّع لزيادة أرباحه المالية من خلال الانفتاح على أسواق جديدة. كلّ هذه المعطيات والأرقام تطرح سؤالاً بديهياً: هل ما زالت الصحف الورقية قادرة على الاستمرار على رغم كلفة الطباعة وتراجع أعداد القراء والمعلنين؟ والى متى ستصمد في مواجهة الإعلام الإلكتروني؟ زوال الصحف الورقية؟ يختلف الخبراء الإعلاميون في مسألة زوال الصحف الورقية في المستقبل لتحلّ المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي مكانها في شكل كامل، خصوصاً أنّه ما زال هناك مستثمرون يضعون أموالهم في قطاع الصحافة الورقية مثل رجل الأعمال الأميركي وارن بافيت الذي يشتري الكثير من مجموعات الصحف في الولاياتالمتحدة الأميركية، متجاهلاً الوقائع المتشائمة التي تقدّم حولها. وتوضع الآمال اليوم على مستثمرين، مثل بافيت، لإنقاذ ما تبقّى من صحف ورقية. مدير منظّمة الملكية الفكرية التابعة للامم المتحدة الخبير فرانسيس غيري يؤكد أنّ الولاياتالمتحدة ستودّع الصحف الورقية عام 2017، لتتبعها لاحقاً بقية الدول في العالم. ويرى غيري أنّ ما يحصل اليوم هو «تغيير طبيعي»، وبما أنّ معظم الصحف أصبحت غير قادرة على دفع رواتب موظّفيها وتسديد كلفة الطباعة والتوزيع بسبب انخفاض عائدات الإعلانات، فإن ذلك سينعكس سلباً عليها ويقلّص إمكاناتها تدريجاً وصولاً الى الزوال النهائي. وعلى هذا الصعيد، يشير الخبير الفرنسي في مجال الإعلام برنار بوليه، الذي أصدر كتاباً بعنوان «نهاية الصحف ومستقبل الإعلام»، إلى وجود عوامل عدة تشكّل خطراً على الصحف، أولها تزايد سلطة الإنترنت وتراجع الموازنات الإعلانية للصحف التقليدية واتجاهها نحو وسائل الإعلام الإلكترونية، إضافة الى عدم اهتمام جمهور الشباب بالصحف المطبوعة وتغيّر أنماط التفكير والقراءة وانتصار ثقافة المعلومة المجانية. ويلاحظ بوليه أنّ في بعض الدول، مثل فرنسا، ما زالت هناك محاولات لإصلاح قطاع الصحافة المكتوبة وإعادة إحيائه أو تكييفه مع المتغيّرات الجديدة، لكنّه يرى من موقعه كصحافي وخبير إعلامي أنّ «هناك ضرورة لمناقشة فرضية اختفاء جوهر الصحف الورقية والمنعطف الذي تمرّ به عملية إنتاج الإعلام». غير أنّ خبير الإعلام الأميركي دان جليمور لا يفوّت فرصة أو محاضرة ليؤكد أنّ تميّز الإعلام الإلكتروني لن يؤثر في مستقبل الصحافة المكتوبة. فهو يرى أنّ على رغم انتشار المعلومات وتداولها عبر شبكة الإنترنت، ما زال الكثير من الأفراد يحرصون على قراءة الصحف الورقية المطبوعة بما ينسجم مع العادات التي تكوّنت لديهم طوال حياتهم. لكنّ هذه الفرضية توضع اليوم أيضاً على طاولة النقاش بما أنّ العادات الجديدة، خصوصاً لدى جيل الشباب الذي يرسم اتجاهات القطاعات الاقتصادية، ترتبط مباشرة بالأجهزة الإلكترونية الحديثة، كأجهزة الكومبيوتر اللوحية والهواتف الذكية التي تسمح بقراءة الكثير من الصحف الإلكترونية والأخبار الجديدة مجاناً. سباق غير متكافئ لم يُحسَم الجدل بعد حول الرابح النهائي في معركة الوجود بين الصحافة الورقية والإعلام الإلكتروني عالمياً. فالسباق ما زال مستمراً، لكن من دون أن يكون متكافئاً على مختلف الصعد. وفيما تحافظ الصحف المطبوعة على نموذجها التقليدي وهي تحاول أن تقدّم مواد رصينة وجادة للقارئ بغية جذبه إليها أكثر، يخطو الإعلام الإلكتروني خطوات كبيرة في هذا المجال، ومنها إتاحة خدمة الفيديوات التي تنقل المشاهد مباشرة الى موقع الحدث، إضافة الى عرض الأخبار الجديدة لحظة فلحظة، ما يسرق أفضلية «السبق الصحافي» من الصحف المطبوعة المضطرة إلى انتظار 24 ساعة قبل طبع الخبر. كما أنّ المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي تتجاوز حدود الزمان والمكان، ويمكن أي شخص حول العالم التفاعل مباشرة مع أخبارها وأي مواد إعلامية أخرى تنشرها. وثمة إمكانات تقنية أخرى تخدم الإعلام الرقمي أيضاً، كقدرة المستخدمين للوصول الى أرشيف المحتوى الإعلامي من خلال كبسة زرّ، وكلّ هذه الوقائع تعطي المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي الأولوية على الساحة الإعلامية اليوم. وتبقى إشكالية الصحافة الورقية عالقة بين التشكيكات والتساؤلات، والتطوّرات التي سيشهدها القطاع الإعلامي خلال السنوات المقبلة سيكون لها الدور الأكبر في إعطاء جواب نهائي لهذه الإشكالية، خصوصاً أنّ كلّ خبراء الإعلام ما زالوا يعطون مساحة زمنية تسبق أي «انهيار» كامل لهذا النوع من الصحافة. ووفق «امبراطور الإعلام» روبرت ميردوخ، فإنّ «الصحف الورقية في طريقها الى الانقراض لتترك الساحة خالية أمام التقنية الرقمية، لكنّها ستحتاج إلى أكثر من خمسة عشر عاماً لتسقط من حسابات القراء». فميردوخ يرى أنّ القارئ في المستقبل لن يحتاج الى الصحافة المطبوعة، و«سيخضع طواعية لسطوة الإعلام الرقمي، فيحصل على وسيلة مجمولة تنقل كامل مضمون الصحيفة الذي يجرى تحديثه كلّ ساعة أو ساعتين على الاكثر». وخلال هذه الفترة، ستتوضّح الصورة ويتبيّن إن كانت الصحافة المطبوعة عصية على الموت بوجود القراء الذين تربطهم علاقة وثيقة بالورق والحبر.