فجّرت الحكومة العراقية أزمة جديدة بإعلانها الموافقة على تحويل أقضية إلى محافظات، بعض منها يضم غالبية سكانية لطائفة محددة، أو أقلية دينية. وتعود الأزمة الجديدة إلى توقيتها في ظل مشكلات أمنية وسياسية مستعصية، والى نتائجها وفقاً للوضع الملتبس والمعقد في صيغة الحكم، بين المركزية واللامركزية، وغياب الأطر القانونية ذات الصلة، وأخيراً الى الانقسام العمودي والأفقي في الوسط السياسي العراقي. المناطق التي شملها قرار التحوّل إلى محافظات «إدارية»، هي طوز خرماتو (شمال شرقي بغداد)، التي تعرضت إلى موجة تفجيرات شرسة طيلة السنوات الماضية، ويسكنها تركمان شيعة، سافر عدد منهم إلى كربلاء الشهر الفائت للاعتصام ضد تدهور الأمن. ومثل طوز خرماتو ستتحول منطقة صغيرة شمال مدينة الموصل، هي تل عفر، إلى محافظة يسكنها تركمان شيعة أيضاً. وشمل القرار أيضاً الموافقة على دراسة طلبات تحويل مناطق أخرى الى محافظات، منها سهل نينوى (شمال)، حيث يقطن عدد كبير من المسيحيين العراقيين، وسبق لرئيس الجمهورية، جلال طالباني، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، أن وافق على أن تكون للمسيحيين العراقيين محافظة خاصة بهم، بعد تزايد الاعتداءات ضدهم التي أجبرت أعداداً كبيرة منهم على الهجرة. ومع أن هذه المناطق – المحافظات، لها وضع خاص، كونها جيوباً للأقليات الطائفية أو القومية أو الدينية في محيط «مختلف»، لكن القرار الحكومي الذي دافع عنه نوري المالكي بشراسة مستنداً إلى الدستور، شمل كذلك الفلوجة التي يحدها حزام بغداد السنّي من الشرق، والرمادي السنّية أيضاً من الغرب. قرار ارتجالي؟ نال القرار الحكومي ردود فعل «غاضبة» مختلفة التوجهات، لكن ابرز الأسئلة التي أثيرت في شأنه كان يتعلق بالجدوى منه، على مستوى تقوية النظام الإداري في العراق. «الحكومة فشلت بعد ثماني سنوات في تحقيق أي إجماع حول قوانين رئيسة كإدارة النفط والموارد الطبيعية (...) وبالتالي لا يمكن أن تؤتمن على اللعب بالخريطة في شكل أحادي»، هذا ما يذهب إليه الباحث العراقي، حارث حسن، وهو يصف الأمر بأنه في منزلة «حالة ارتجال» تمر بها السلطة. لكن رئيس الحكومة، نوري المالكي، كان مندفعاً ظهيرة الأربعاء، 22 كانون الثاني (يناير)، باتجاه «إسكات أصوات تناقش القرار وتجادل فيه»، حين قال في ما بات يعرف بالكلمة الأسبوعية له: «لا احد لديه الحق في الاعتراض على القرار (...) إنه دستوري وقانوني». اختلف كثيرون بشأن البحث عن الأرضية القانونية التي تجيز القرار. بيد أن رايدر فيسير، وهو باحث نروجي يرأس تحرير موقع «هستوريا» المهتم بالشأن العراقي، رأى «مفارقة سياسية فيه»، وقال: «في الوقت الذي لا يوجد إطار قانوني واضح لكيفية تحويل الأقضية إلى محافظات، فإن الدستور أقر بتفصيل كيفية تحول المحافظات إلى أقاليم»، لكن هذا لم يحدث أبداً، وتقوم بشأنه أزمات سياسية ونزاعات ذات طابع قومي وطائفي. رايدر ليس وحده من أشار الى غياب الأطر القانونية، فالمالكي نفسه قال ذلك: «القرار دستوري، لكنه بحاجة أيضاً إلى قوانين تنظّم هذه العملية، وإلى استعدادات لتكوين المحافظات». مواجهة جديدة مع الكرد ليس صعباً اكتشاف غضب الكرد من قرار تحويل تل عفر وطوز خرماتو إلى محافظتين، لأنهما ببساطة واقعتان ضمن الرقعة الجغرافية للمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل. وتحدث مصدر سياسي رفيع إلى «الحياة»، بأن الوزراء الكرد لم يصوّتوا على القرار، لكنه مُرر بالغالبية. ويختصر خالد شواني، وهو نائب كردي، في تصريح إلى «الحياة»، موقف القيادة السياسية الكردستانية، بأن «قرار تحويل طوز خرماتو وتل عفر إلى محافظتين، قبل تطبيق المادة 140 من الدستور يعتبر انتهاكاً صارخاً للدستور (...) بموجب هذه المادة لا يمكن اتخاذ أي قرار إداري أو سياسي لحين التسوية النهائية لمصير هذه المناطق». ولأن القرار ولّد انطباعاً بأنه «تحدٍ للكرد»، كما يقول الباحث حارث حسن، فإنه لن يمرّر في البرلمان. ويرى حسن أن «القرار يشي بالكثير عن الطابع الارتجالي في إدارة الدولة في العراق (...) إذ كيف يمكن الإقدام على خطوات مهمة كهذه من دون أن يسبقها جدل عام ونقاش حول الغرض منها، والأهم من ذلك قانون ينظم هذه العملية؟». يرى فريق المالكي ان الفرصة مناسبة لمناكفة الكرد على المحافظات في مناطق متنازع عليها، ما دامت الحكومة قد صوتت في وقت سابق على حلبجة محافظة رابعة في الإقليم. لكن الفرق من وجهة نظر الكرد التي لخصها النائب محسن السعدون، أن «الإقليم لديه تشريع يضمن تشكيل المحافظات، أما بغداد فقررت ذلك من دون أرضية قانونية». إنصاف المكونات يبدو أن فريق المالكي السياسي، هو الوحيد في الساحة الذي يؤيد القرار ويدافع عنه. إذ يعتقد القيادي في دولة القانون، عباس البياتي، بأن تحويل تلك المناطق إلى محافظات سينصف المكونات العراقية التي تسكن فيها. يقول البياتي، في مؤتمر صحافي حضرته «الحياة»، إن «الحكومة تسعى الى دعم عملية التنمية الإدارية والاقتصادية والبشرية (...) وآمل أن يقوم مجلس النواب بالنظر بعين العدالة إلى هذا القرار». لكن يبدو الأمر صعباً لجهة تمريره في البرلمان. فتوازن القوى، حتى الشيعية منها، ليس في مصلحة أمنيات ائتلاف دولة القانون، إذ هناك فيتو كردي، وآخر من بعض فصائل السنّة، وكتل شيعية منافسة ومتخاصمة مع المالكي. انقسام عمودي وأفقي لم يكن الانقسام الذي خلّفه قرار تشكيل المحافظات الجديدة، مرتبطاً بكتل ومكونات وحسب، بل انقسمت هذه الفرق على نفسها. «متّحدون» أكبر الكتل السنّية، في البرلمان العراقي، أعلنت موقفين متضاربين من تحويل مناطق سنّية إلى محافظات. محافظ الموصل، أثيل النجيفي، رفض محافظة تل عفر، لأنها ستعزله عن الحدود السورية، لكنه اشترط للموافقة أن تكون تل عفر «المحافظة» جزءاً من إقليم نينوى. عمر الهيجل، وهو قيادي في الكتلة ذاتها، قال ل «الحياة»، إن من «الأولى تحويل العاصمة بغداد إلى ست محافظات»، بدعوى أن التطوير الإداري كما يصفه يمنح القدرة على تحسين الأمن. يقول الهيجل: «أقضية بغداد الستة بحاجة لأن تحول إلى محافظات للدواعي نفسها التي على أساسها صوّت مجلس الوزراء لتحويل تل عفر والطوز إلى محافظتين». الهيجل، وهو يظهر حماسه للقرار، يعتقد بأن «القرار يعيد رسم خريطة العراق ويحقق مبدأ المشاركة». وفي هذا السياق، يقول مصدر سياسي مقرب من المالكي، إن اصدار القرار من جانب فريق دولة القانون سيكون تحت شعار «تلبية مطالب السنّة»... لكن ليس كل السنّة، حتى داخل «متحدون» يتفقون مع هذا. يقول نائب سنّي آخر، وهو فلاح الزيدان، إن «القرار الحكومي يعكس أجندة خارجية لتفتيت وحدة البلاد». الفخ في الجنوب خريطة المحافظات المولودة حديثاً، أو في طريقها إلى ذلك، انحصرت في مناطق شمال بغداد، حيث خليط عربي كردي، سنّي مع أقلية شيعية. لكن ماذا عن مناطق سنّية في محيط الغالبية الشيعية في الجنوب؟ يبدو أن الموافقين من السنّة على القرار، يريدون الذهاب مع المالكي بعيداً في لعبة الارتجال. فالموافقة على الفلوجة وغيرها كمحافظة جديدة، تستبطن الدعوة الى قرار مماثل يشمل الجيوب السنّية في محافظات الجنوب. لكن المدينة تعرضت إلى أعمال عنف متعاقبة بعد العام 2003، فاضطر عدد كبير من سكانها السنّة إلى المغادرة نحو مناطق آمنة، لكن طلب تحويلها إلى محافظة لم يختف إذ تبناه نواب شيعة صار لهم نفوذ في الزبير، والبصرة في شكل عام. يعني ذلك خروج السنّة من لعبة الأقلمة في الجنوب، والبصرة على وجه الخصوص، وبات الصراع على تقسيمات إدارية جديدة محصوراً بين فصائل شيعية، كما هو الحال بين دولة القانون والمجلس الأعلى الإسلامي. لكن الوقت بالنسبة الى المالكي ليس مناسباً لفتح جبهة شيعية، على مقربة من انتخابات حامية الوطيس بين الأخوة الأعداء داخل البيت الشيعي. ثلاثة مؤشرات للقرار الحكومي تشكيل محافظات جديدة، أولها أن عملية التشريع ستدخل في سجال طويل بين الفرقاء لن يحسم قبيل الانتخابات، وهذا ما يعرفه المالكي. وثانيها أن إدراك «استحالة» ذلك لا يعني سوى أن الخطوة جاءت فقط لتفريغ ساحة الأزمة الحقيقية في العراق من عناصر الضغط والمتابعة. أما ثالثها فهو ما يعود إليه الباحث العراقي، حارث حسن، حين يصف الأمر بأنه «عشوائية سياسية من نتاج انعدام الكفاءة، ستتحول إلى ممارسة متعمدة هدفها إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى من الدستور، واللعب على المكشوف».