إذا كنت أشيب الشعر، فالأرجح أن تحسّ بأنك دخلت مكاناً سحرياً. هذا ليس مكانك، ولا تفهم شيئاً مما يقال. كيف يقول ابنك إنه جرّب أن يكون رامي قنابل في المنزل فمات مرّتين، وبات غباءً منه أن يكرر التطوّع في هذه المهمّة؟ تسمع عبارة «إنه وراءك. تحرّك فوراً»، ولا تفهم شيئاً، إذ لا أحد يتحرّك من هؤلاء المسمّرين على الشاشة، وأنت دخلت على أمل أن تطلب منهم تخفيف ضوضاءهم قليلاً، لكنهم لم يروك... لحد الآن! كأنك في غابة «إليس في بلاد العجائب»، فتدلف إلى مكان يبدو لعينيك شيئاً، لكن ما أن تدخله، حتى يتبيّن أنه شيء آخر. جنرالات بعصي سحريّة كيف وصلت إلى هذا المكان المسحور تماماً؟ لم يحملك جنيّ خرج من مصباح، ولم تصل إليه جريّاً وراء أرنب في غابة «إليس» قفز فجأة في جحر كان خفيّاً، فصار حصاناً أبيض. كلا. كان الأمر أكثر بساطة. نهضت من غرفة الجلوس إلى غرفة الأولاد: هذا كل شيء! وذاك يكفي لتسمع عبارة من نوع: «وصل عدد القتلى إلى الألفين، ونحن فقدنا ألفاً ومئتين... مايك يحارب معي من لوس أنجليس، ويصل بعد قليل مع مصفّحة ومجموعة مقاتلين». قائل هذه العبارة ليس خلف متراس، لكنه يقولها بحماسة كأنه في خضم قتال ضارٍ بين جيوش هائلة. قائل هذه العبارة لا يتجاوز ال 14 من العمر. صحيح أنه «يعتمر» خوذة، لكنها مجرد طوق من بلاستيك مقوىً فيه سمّاعتان وميكروفون، ولا يمسك بيده سوى ما يسمى «عصا اللهو» (وهي أداة لألعاب الفيديو الإلكترونيّة)، وهي أشياء تتصل كلها دوماً مع شاشة الكومبيوتر. هناك هو السحر. من هناك يأتي هذا البحر المتلاطم. إنها الشاشات، إنها الشاشات. ليست غرفة الأولاد في منزلك مكاناً مسحوراً ولم يدخلها جنرالات بنجوم. كل ما حصل أنك اشتريت كومبيوتراً قويّاً لابنك لتهّنئه بنجاحه في الشهادة الإعدادية. ثم مددت، تحت تأثير إلحاح من الابن والابنة والزوجة وكثير من الأصدقاء، أحد خطوط الإنترنت السريع إلى الدار. وفجأة، اندلعت حربٌ لا تسمح كهولتك بفهم مجرياتها، لكنك أنت أيضاً جرّبت شيئاً مشابهاً قبل بضع سنوات، عندما تعوّدت أن تمارس لعبة ال «فيفا» الإلكترونيّة، منفرداً في البداية ثم مع أصدقائك. من قال إن «من شابه أباه ما ظلم»؟ كم هو صادق. سار ابنك على خطاك، بل على خطى جيل بأكمله. وانخرط مع أصدقائه في لعبة «حرب العوالم» War of Worlds، التي تمارس من قِبل مجموعات كبيرة تتشارك اللعب عبر الإنترنت. أترى؟ أنت أحضرت السحر كلّه: الكومبيوتر، وخط الإنترنت السريع، وحتى مفهوم اللعب الإلكتروني الجماعي. تريد إثباتاً؟ أولم تشاهد ذلك الإعلان الخليجي المتلفز الذي يظهر فيه اثنان من الأصدقاء في غرفة، وهما منغمسان في لعب كرة القدم الإلكترونيّة على شاشة رقميّة. ألا يذكّرك هذا بشيء ما؟ هل يذكرك مثلاً بلعبة ال «فيفا» أو ربما بجهاز ال «آتاري» أيضاً؟ إذن، لم يكن على ابنك سوى أن ينتقل إلى الخطوة التالية. وينخرط في ممارسة ما يعرف اختصاراً باسم «إم إم أو آر بي جي» MMORPG، وهي اختصار لعبارة Massive Multiplayer Online Role - Playing Game. ما معنى هذه العبارة؟ هناك ألعاب إلكترونيّة تمارس عبر الإنترنت، هذا أولاً. وثانياً، تتميّز هذه الألعاب بأن كل لاعب يتّخذ لنفسه دوراً فيها، كأنه ممثل يؤدي دوراً في أحد الأفلام. وثالثاً، تفترض هذه الألعاب وجود مجموعات تلعب مع بعضها بعضاً، بأعداد كثيفة فكأنها جيوش أو شعوب أو تظاهرات ضخمة أو ما يشبه ذلك! سهلة؟ ربما. لنكمل قليلاً. تفترض لعبة «حرب العوالم» شيئاً بسيطاً تماماً: العالم كله تحوّل ساحة حرب متّصلة تخوضها الشعوب ضد بعضها بعضاً. لا تقلق. إنه مجرد افتراض أولي. ثم تأتي بعد ذلك سلسلة من التعليمات عن القتال وطرقه، والإمدادات وسُبُل الوصول إليها، والأسلحة ومدى دمارها، وشروط تحوّل اللاعب جريحاً يطلب المساعدة أو وقوعه قتيلاً، وكيفية اختيار الأهداف التي يجب ضربها كي يحس «الأعداء» بالضعف، ومتى يمكن ضرب المدن والطرق وشبكات الكهرباء وغيرها. عائلة وعزلة وألعاب فيديو ربما تندلع في رأسك مجموعة من الأسئلة: هل تراعي هذه الألعاب الشروط الإنسانيّة للعب بمعنى أن تساعد على تنمية نفسية الطفل/المراهق وتعليمه وقيمه وأخلاقيته، أم أنها تعمل على انفلات كوامن العنف لديه (بل تغذّيها ربما)، وتحوّله كائناً أشد عدائيّة مما كانه قبلها؟ هل أنها تؤدي إلى عزلته عن أسرته (متى آخر مرّة خُضّت نقاشاً عائليّاً طويلاً ومستمراً مع ابنك/ابنتك)؟ هل تعزله عن الأسرة والمجتمع إذا مارسها وحيداً؟ هل تعزله ضمن شلّة صغيرة من الأصدقاء، فتتكوّن شلّة معزولة عن مجتمعها ومتّصلة مع عالمها الافتراضي، بل إنها خارجة عن أدوارها اجتماعيّاً لمصلحة أداء أدوراها في الألعاب ال «إم إم أو آر بي جي»؟ لا تتوقّع إجابات سهلة. في البداية، لا تبحث عن الإجابة في العالم العربي! لماذا؟ لأن الدراسات الاجتماعيّة - النفسيّة عن ظاهرة الألعاب الإلكترونيّة، هي ضئيلة عربيّاً بل نادرة. (ثمة من يريد السخرية للقول إن الوصف السابق يصحّ على معظم الأشياء الأساسيّة عربيّاً. لنتجاوز هذه السخريّة المُرّة، ربما لأنها...صحيحة). وقبل أن تغرق في البحث، تذكّر أن معظم الاختصاصيين وعلماء النفس، شرقاً وغرباً، يرون أن على الآباء ألا يكونوا غرباء عن العوالم الافتراضيّة للأبناء، بل عليهم أن يتفاعلوا معهم. هل تتخيّل نفسك وقد بتّ لاعباً - محارباً في «حرب العوالم»، تُمسك بأداة اللعب الإلكتروني، وتصرخ مُنبّهاً من لا تعلم عن قدوم عدوٍ من «الخلف» في أمكنة لا جغرافيا فيها أصلاً، ليكون فيها أمام وخلف؟ إنه زمن الشاشات الرقميّة الذكيّة، ولعله من الأفضل التفاعل مع الذكاء، وليس البحث عن ذرائع للهرب منه. وللحديث بقيّة.