تسع سنوات مرت على اغتيال رفيق الحريري، شهد لبنان خلالها تدهوراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً لا يزال مستمراً. وجاء تورط "حزب الله" في الحرب السورية ليتوّج هذا التدهور باصطفاف مذهبي مخيف ينذر بالذهاب بما تبقى في هذا البلد المبتلى بجيرانه وأبنائه الذين لم يُعدموا يوماً الرغبة ولا القدرة على تدميره ببطء وإصرار، في تكرار محبط. كان الحريري ظاهرة استثنائية بقدرته على استنباط الحلول وعقد التسويات ونزع فتائل الاقتتال والفتن، مستنداً إلى رغبته الجامحة في حماية وطنه من نزوات الجغرافيا والتاريخ وإبعاده عن المحاور والأحلاف، لكنه كان يعرف في الوقت نفسه أن لبنان لا يستطيع أن يتنكر لمحيطه العربي أو يعاديه، وأنه لا بد من تدوير الزوايا إلى أن يحين الوقت الذي يستطيع أن يفرض فيه حياده الإيجابي. لكن يد الغدر لم تمهله لتحقيق حلمه. رأى فيه القتلة عقبة في وجه فرض دور على لبنان لا يرتضيه كل أبنائه، وسداً يحول دون إلحاقه بسياسات خبيثة مغلفة بشعارات جوفاء عن "التوازن الاستراتيجي" و "زوال إسرائيل"، كان هدفها الفعلي منعه من ممارسة سيادته وإبقاءه رهينة دائمة لقرارات تصدر من خارج الحدود القريبة والبعيدة. وبعدما حاولوا عبثاً كسر قدرته على الحوار، وخنق مرونته الفذة في استيعاب المطالب والشروط والحرتقات والابتزازات، ودفعه إلى التخلي عن مبدأ التوافق الجامع، لم يجدوا سوى الإفناء وسيلة للتغلب عليه، لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن "يهضموا" تركته ولا أن يسحقوا بذور الاستقلالية التي سقاها بدمائه. ظل القسم الأكبر من اللبنانيين يقاوم، ولا يزال، بانتظار اليوم... هذا اليوم الذي تفتتح فيه المحكمة الدولية أعمالها لتعطيهم الأمل بأن المرتكبين الذين أدمنوا الاغتيال لن يفلتوا من العقاب، وان تمزيق الجسد لا يقضي على الفكرة ولا يقوى على المستقبل. ولأن القهر لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، قامت ثورة الأرز، وقدمت في طريقها قرباناً تلو الآخر، لتفدي حرية اللبنانيين وتوقهم إلى العيش المشترك الآمن تحت كنف الدولة ومؤسساتها، فاتحة الطريق أمام انتفاضة السوريين ضد نظام ألغى حقوقهم ومواطنيتهم وأطلق عليهم أجهزته الأمنية والاستخباراتية تنكّل بهم على امتداد عقود، وتتوزع غنائم وطنهم المكبل بالطائفية والفساد والمحسوبية. المعركة على الظلم بالكاد بدأت، والطريق طويل، وقد يشهد سقوط المزيد من الشهداء، ويعترضه الكثير من المطبات، لكنه طريق لا عودة فيه إلى الوراء ولا مفارق لاهية ولا أكواع مخفية، وليس في نهايته سوى الحرية الكاملة للشعبين اللبناني والسوري، مساراً وحيداً يضمهما معاً، لا اصطناع فيه ولا تكلف. اليوم تبدأ المحكمة الدولية تفكيك مداميك "الغرفة السوداء" السورية– الايرانية، التي لا تفهم سوى لغة البطش والعسف، ولا تنتج سوى السيارات المفخخة وكواتم الصوت، ولا تتكلم سوى لغة التهديد والقتل، ولا تضمر إلا المكائد والاقتتال والتفتيت، ولا تبني سوى السجون الملأى بعشرات آلاف المعتقلين، ولا تكتب سوى قوائم المفقودين التي لا تنتهي. واليوم يشهد العالم كله كيف سيفضح رفيق الحريري قاتليه ويدينهم ويعزلهم. فلتتحقق العدالة الآن.