سلالم المبنى ازدادت عدداً، وارتفع علوها من سلم إلى آخر. بلوغ باب الشقة في الطبقة الرابعة يبدو في لحظة من اللحظات مثل سراب. والطفلة تنوء بما حملت، وتنظر تارة إلى أعلى وتارة تدير رأسها إلى أسفل، علّ السلالم التي صعدتها تمنحها قوة إضافية لمواصلة «الصعود نحو القمة». في منتصف الطريق، توقفت الصغيرة. فتحت حقيبة الأدوات المدرسية، ومرت بأصابعها بصعوبة على الكتب والدفاتر المكدسة. اختارت دفتر الرسم الكبير الحجم، المغلف ببلاستيك أزرق داكن. وضعته بعناية على السلم، وجلست عليه بحرص، تستريح لبعض الوقت من عناء الرحلة اليومية، بعدما اطمأنت إلى أن جلستها لم تطو أطراف أوراق الدفتر - المَقعد. في مرة سابقة، أنهت استراحتها على السلم، ونسيت «المقعد» هناك. هذه المرة، ظلت أصابعها ممسكة بطرف منه، كي تذكر نفسها به. سمعت وقع خطوات على السلم، فنهضت مسرعة، تجمع الدفتر داخل الحقيبة. حيّتها جارة الطبقة الأخيرة بمودة، وضغطت بشيء من القوة على كتفها الغض، مستفسرة إياها عن يومها في المدرسة، وهي تواصل صعود السلالم. عادت أدراجها لما لاحظت أن لدى الصغيرة مشكلة في التقدم. وانتابها شعور خفيف بالذنب إزاء حركة المودة التي قامت بها عندما ضغطت على كتف الصبية المنهكة. «هل أحمل عنك الحقيبة؟»، ومدت يدها نحو الحقيبة الملامسة لأرضية السلم من دون أن تنتظر الإجابة. صدمها ثقل ما حملت. لم تدخل الجارة بعد عالم المدرسة. صحيح أن لديها فكرة عن الموضوع، ولكن كانت تنقصها التجربة، ولا يزال طفلها الوحيد دون سن التعليم. لكن الأهم، أنها تنتمي إلى جيل السبعينات الذي لم يعرف مدارس التعليم الخاص، ولا التحول الذي شهده التعليم العمومي من جهة منافسة القطاع الخاص في «تحميل الأسفار» للصغار بمختلف درجات الأثقال. أطفال يحملون الأثقال، أو يجرّون وراءهم ما يشبه حقائب سفر كبيرة بات مشهداً عادياً في المدارس المغربية. آباء حريصون في شكل يومي، على حمل الحقيبة المدرسية لأبنائهم من وإلى المدرسة، بدافع اقتسام عبئها أكثر منه بدافع الاطمئنان عليهم وسلامتهم مشهد آخر لم تعشه الجارة وجيلها. ركام الكتب والدفاتر والأقلام التي يحتاجها صغار اليوم لولوج «السلك» الابتدائي بخاصة، والإعدادي والثانوي، مشهد يذكرها بأيام الجامعة، وبالتحديد، أيام التحضير لنيل الديبلوم. أطفال أقل شغباً وحركة في الشارع في طريقهم إلى المدرسة أو منها، جراء ما يرزحون تحته، مشهد نادر أيام طفولتها لما كان الأطفال يسابقون الرياح، وفي أيديهم حقائب تكاد تكون من وزن الريشة مقارنة بحقائب اليوم. «لم قد يحتاج الأطفال إلى كل هذا؟»، ناولت الجارة الحقيبة لأم الصغيرة التي سارعت لالتقاطها معتذرة لها. «ليسوا هم من في حاجة إلى كل هذا، بل هم المتاجرون في التعليم وفي مستقبل أبنائنا»، ردت بمرارة. أخبرت الأم جارتها أن المزيد من الكتب لم تستوعبها الحقيبة توجد بعد في المنزل، يحملها الأب إلى الفصل الدراسي حينما تحين حصتها. في ظل هذا الواقع، يفترض أن تحتفظ فصول المؤسسات التعليمية بجزء من الكتب والدفاتر في خزاناتها، وتبقي للتلاميذ الجزء الذي يتعين عليهم مراجعته. ويصل وزن الحقيبة المدرسية إلى عشر كيلوغرامات، وأحياناً إلى خمسة عشر. وسواء حمله الطفل في حقيبة ظهر أو جره في حقيبة بعجلات، فإن جسمه لا يتحمل كل هذا الثقل، وعظامه الغضة التي تعد في طور النشوء بعد تتأذى، لا سيما على مستوى العمود الفقري، وجر الحقيبة أو حملها بأحدى اليدين، مع ما يفرض الثقل من اعوجاج الجسم للمساعدة وخلق حالة التوازن يؤذي الأطراف أيضاً. وتدعو المعايير الصحية إلى مراعاة فترة النمو الطبيعي لجسم الطفل. لكن من يراعي؟ فدعاوى تسليح الطفل بالتعليم الجيد ومواكبته للتطور العام في العالم وبحث التعليم المغربي عن مخرج لمأزق فشله وجشع المضاربين، تحمّي السباق نحو الربح في سوق تجارة الكتب واللوازم المدرسية. وهكذا لا تلبث المقررات الدراسية على حال بين سنة وأخرى، والأسر مضطرة إلى اقتناء الجديد والتخلص من القديم. والخسارة المريرة يشعر بها الآباء أكثر في حال رسوب الأبناء. لكن للمرة الأولى منذ استقر هذا الوضع، قررت الحكومة المغربية السنة الجارية «رفع الحظر» عن المقررات الدراسية للسنة الماضية، ومنعت تغييرها. واستبشر الآباء خيراً بالقرار، وعادوا إلى الحلم بأيام كان فيها الكتاب الواحد يرثه الأخ عن أخيه سنوات، ويعار، ويعاد بيعه في سوق الكتب المستعملة.