تمر الثورات، وتتواتر الانتقاليات، ويتواصل هبوب الرياح، الربيعي منها والخريفي، ولا يُكتَب البقاء والاستمرار والمحافظة على العهد والمواظبة على النشاط إلا لهذا القطاع الأصيل والمكون الفريد والعنصر العريق، ألا وهو البلطجية. ولأن الثورات تأتي بما يشتهيه البعض لحساب البعض الآخر، وتحتم الفترات الانتقالية أحياناً لجوءاً اضطرارياً أو اعتناقاً اختيارياً لترجيح كفة موازين دون غيرها، وبما ان رياح التغيير تأتي محمّلة بأتربة تيارات غير مرغوب فيها حيناً وملبدة بغيوم ايديولوجيات غير مرحب بها حيناً، فإن الدور التصحيحي والضلوع التوجيهي للبلطجية بأنواعهم من نظاميين وموسميين ومحترفين وهواة، دائماً ما يجد من الأذن ما يصغي، ومن الرؤى ما هو ثاقب، ومن الجيوب ما هو دافع، ومن التنظير ما هو مبرر، وكذلك من العداء ما هو مستحكم ومن الرفض ما هو مستحق. الاستحقاق الاستفتائي الذي تسير نحوه مصر بخطى ثابتة رغم رعشات الترقب وبتأكيد مفرط رغم تشكيك التأسلم يعني تمرينات إحماء في صفوف البلطجة التي عاش مع صنوفها المصريون وتعايشوا على مدار عقود طويلة مضت. سمّوها «تظاهرات تأييد» وقت احتاج نظام الرئيس السابق حسني مبارك إلى خلق أجواء تأييد افتراضية لفترة رئاسية جديدة أو سلب المعارضة شرف الوصول إلى صناديق الانتخاب البرلمانية أو حرمان أصحاب الكاريزما من مجرد حلم الوصول إلى كرسي السلطة. وأطلقوا عليها «المواطنون الشرفاء» الذين يتجمعون لرفض «هوجة يناير» 2011 فيرهبون «البلطجية»، أي الثوار، ويردعون «الحرامية»، أي المتظاهرين في إطار محاولات مستميتة لنظام فاسد للبقاء على قيد الحياة. ودارت الأيام ودار معهم البلطجية ليتحولوا إلى جموع للشرعية وألتراس لمحمد مرسي وداعمين لأمير المؤمنين ضد الكفار والزنادقة الرافضين لمخطط الخلافة وتخطيط التنظيم. تنظيمات البلطجية لم تعرف يوماً الفناء ولا تنوي أبداً الانتهاء، فلا الظروف تسمح بالاستغناء عن خدماتهم ولا المشهد السياسي مهيأ للاستقلال بعيداً منهم ولا الإسلاميون يقدرون على التمسك بحلم «دحر الانقلاب» و «كسر الداخلية» و «تفتيت الجيش» و «تأديب الشعب» من دونهم. ومن دون الاعتراف بأن البلطجة ليست ظاهرة متناغمة أو كياناً متوحداً أو مهنة يعترف كل أبنائها بالانتماء إليها، لا يمكن التنبؤ بالمشهد كاملاً في إطار الاستعداد للاستفتاء على الدستور المعدل بعد 48 ساعة بالتمام والكمال. كمال الاستعدادات الأمنية لتأمين الاستفتاء يتضمن إشارات ويحوي خطوات هادفة، أو بالأحرى طامحة، إلى تطويق البلطجية ومحاصرة رعاة أعمال البلطجة وإجهاض محاولاتهم لإجهاض الاستفتاء، أو ترهيب المستفتين، أو توجيه الاستفتاء، وهو الثالوث المتهمة أضلاعه بالبلطجة، وهو أيضاً ما يعكس مهزلة الاتهام المتبادل بين الجميع بالبلطجة. «الداخلية بلطجية» شعار الثوار في كانون الثاني (يناير) 2011 الذي اعتنقه الشعب على مدار عام كامل ثم أخذ في هجرانه أمام تزايد «بلطجة» الإسلاميين مع بزوغ نجمهم السياسي، بات عقيدة «الإخوان» وقواعدهم وحرائرهم وشعار «ثورتهم» الدائرة رحاها بهدفين أساسيين نصب أعينهم وهما إجهاض الاستفتاء، ثم بلوغ الذكرى الثالثة للثورة بغية إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، وإعادة حكم «الإخوان» إلى الأمام. حكم «الإخوان» الذي صنف كل من عارض حكم الجماعة باعتباره بلطجياً، وكل فعل معارض للمرشد أو مناوئ لذراعه الرئاسية أو رافض لجهوده «الإخوانية» باعتبارها أفعال بلطجة، دارت عليه الدوائر، وبات اليوم مصنفاً شعبياً باعتباره تنظيم بلطجية وأفعاله أفعال بلطجة وذلك بالإضافة إلى التصنيف الرسمي باعتبار الجماعة إرهابية. إرهاب التنظيم الذي يتحسب له سكان مدينة نصر والألف مسكن والمهندسين وغيرها من أحياء العاصمة والمدن المصرية ومعهم قوات الأمن كل جمعة في إطار مواجهة «البلطجية» الذين يبدأون ممارسة طقوسهم بعد صلاة الجمعة، يجرى الاستعداد لمواجهة تصعيده المتوقع مع قرب الاستفتاء. قرب الاستفتاء يعني أيضاً إفراطاً «إخوانياً» في إلصاق نعت البلطجة مع كل جملة مفيدة تحوي جهود الداخلية لمحاصرة تظاهراتهم، وفعاليات الجيش لتأمين الاستفتاء ضد الفوضى المنشودة، ونيات الشعب التوجه إلى الصناديق رغم أنف الجماعة. وتظل جماعات البلطجية الرابح الأكبر في كل الأحوال وشتى العهود، فالكل يقتنص مهنتهم لإلصاقها بمنافسيه السياسيين، والغالبية تلجأ إلى جهودهم لتقوية أواصر السعي إلى كرسي الحكم أو تستعين بتقنياتهم، لا سيما اعتبار العنف وسيلة لتحقيق الغايات وليس هدفاً في حد ذاته. وبينما يلقبه بعضهم «جهاداً في سبيل الله» ويصنفه آخرون «دفاعاً عن المكتسبات» ويعتبره فريق ثالث «تظاهرات تلقائية للدفاع عن الشرعية» أو «مواطنين شرفاء يهتفون للمدنية»، يعود الجميع إلى المربع الثوري صفر في الساعات السابقة للاستفتاء. فالداخلية تعلن حملات «تجفيف البلطجة»، و «الإخوان» ينعتون كل من عداهم ب «البلطجية» وكل ما لا يصب في مصلحة التنظيم ب «البلطجة»، والبلطجية الحقيقيون لا يهدرون الوقت والجهد للتوقف كثيراً أمام المسميات وخلف الصراعات، وإن كانوا يشعرون بغضاضة في تمسح كل من هب ودب بمهنتنهم العريقة. أما جموع الشعب فهي الوحيدة التي تعرف حقيقة تصريحات الداخلية ونيات تظاهرات الشرعية وواقعية وجود البلطجية قبل موعد الاستفتاء بيومين لا ثالث لهما. المؤكد أن حقوق الملكية الفكرية والفعلية للبلطجية في خطر بعدما تكالب الجميع عليها.