تضع محاولة الانقلاب الأخيرة في جنوب السودان، مسألة النماذج الفيديرالية الهشة في بلدان العالم العربي أمام تساؤلات صعبة، لا سيما تلك المتعلقة بطبيعة الثقافة السياسية السائدة. فالبلد الذي خاض حرباً ضروساً ضد هيمنة حكم البشير وتمكن من نيل حق تقرير مصيره في صيغة أشبه بالفيديرالية، استلهم من عدوه السابق نموذجاً عسكرياً للحكم يلغي أي إمكانية للممارسة الديموقراطية. وعلى رغم أن تأسيس دولة جنوب السودان قد خفف من حدة الصراع مع شماله من دون أن ينهيه، فإنه على ما تظهر الوقائع الأخيرة فتح المجال لبروز نزاعات داخلية تحمل بعداً إثنياً دموياً. إجهاض هذه التجربة قد يعود بالدرجة الأولى إلى المحيط الاستبدادي المعادي، لكنه يعود أيضاً إلى الفصل بين الفيديرالية والديموقراطية بحيث لا تنعكس الحرية المنتزعة من الآخر حرية مماثلة داخل الجماعة نفسها. هذا الفصل التعسفي يتطابق مع ذاك الذي شهدناه في أوائل السبعينات حين عمدت أنظمة عربية بعثية النزعة إلى الفصل بين العلمانية والديموقراطية لتحكم باسم الأولى من دون أن تراعي أدنى الحدود لممارسة الثانية. ونتيجة هذا الفرز بين المسألتين، اتخذت النظم السياسية طابعاً عائلياً وطائفياً وأبدعت في قمع شعوبها واضطهادها. يمكننا أن نلحظ في هذا المجال تطور الحياة السياسية في كردستان العراق حزبياً وانتخابياً، من دون أن تفضي إلى إزاحة عائلتي بارزاني وطالباني عن مراكز القرار والسلطة. وتجربة كردستان هي جزء من صيغة فيديرالية أوسع شملت عراق ما بعد صدام حسين ضمن دستور يتيح للجماعات الطائفية والإثنية التعبير عن نفسها بعيداً من الطغيان والهيمنة. إلا أن هذه الصيغة تبددت سريعاً بفعل سياسات الثأر والغلبة التي اتبعتها النخبة الشيعية المدعومة من إيران. ولعل دعوة رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية صالح المسلم لإقامة إدارة حكم ذاتي في المناطق الكردية لم تكن سوى استكمال لهذا المسار الفيديرالي الفاشل. فالمسلم ربط إقامة الفيديرالية الكردية بتسوية مع نظام الأسد، بما يوحي أن هذه الفيديرالية في ما لو كتبت لها الحياة ستكون مناقضة لجوهرها بسبب تحالفها غير المعلن مع الديكتاتورية البعثية. الأكيد أن القراءة النقدية لنماذج جنوب السودان والعراق وكردستانه، إضافة إلى نيات حزب الاتحاد الديموقراطي في سورية، تؤكد أن هذه الفيديراليات ليست سوى صيغ مشوهة عن تلك التي طُبّقت في الغرب وساهمت في حل معضلات جماعاتية وطائفية صلبة. فالسياق التاريخي الذي ساعد على نشوء الفيديراليات العربية بأشكالها المشوهة، يشير إلى أنها جاءت نتيجة تسويات جزئية وليس في إطار حل شامل لمشكلة الجماعات في المشرق العربي. فإذا أراد شعب ما ممارسة حقه في تقرير مصيره، سيكون بالضرورة معادياً لمحيطه المملوء بالنظم الاستبدادية. هكذا تُولد الفيديرالية ويولد عدوها معها. والعدو هنا يتيح للحكام الفيديراليين تعطيل أي ممارسة ديموقراطية داخل بلدانهم، لأنها مهددة من الخارج. فالبرزانيون والطالبانيون في كردستان العراق يخافون من النظام المركزي في بغداد، إضافة إلى مشكلاتهم العالقة مع تركيا. وسيلفا كير رئيس جنوب السودان يخاف من بطش الرئيس السوداني عمر البشير، فيما لا يتوقف صالح المسلم عن تبرير نياته الفيديرالية بالخوف من الجماعات الأصولية. وإذا كان من المفهوم أن تخشى الفيديراليات الناشئة من محيطها، فإن من غير المبرر أن تواجه هذا الخوف بتحويله إلى صناعة ديكتاتورية داخلية، الأمر الذي يفسح في المجال لبروز نزاعات داخل الجماعة نفسها. لم تنشأ الفيديرالية في الغرب لحل النزاعات الإثنية والعرقية والدينية بين الجماعات فقط، بل جاءت لتحويل هذه النزاعات إلى علاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية ضمن نظام دستوري محدد وواضح، ما ساعد على قيام ديموقراطيات راسخة في ظل هذه الفيديراليات. وإذا كان «الربيع العربي» قد فجّر داخل البلدان التي مرّ عليها نزاعات أهلية وطائفية وعرقية، فإن الفيديرالية تبدو نظاماً سياسياً مثالياً لاحتواء هذه النزاعات وإدارة توازنات القوى التي تفرزها. إلا أن التجارب السابقة تشير إلى أن تطبيق الفيديرالية بدافع تبادل الخوف بين الجماعات، سيفضي بالضرورة إلى انتقال الديكتاتورية من موقع هيمنة جماعة ضد أخرى إلى موقع الهيمنة داخل الجماعة نفسها. * كاتب سوري