كما شغلت الناس بموهبتها وجمالها وحكاياتها وغرامياتها منذ كانت في مراهقة عندما ذهبت إلى مصر، شغلت الأيقونة صباح الناس والعرافات والإعلاميين بترقّب موتها وانتظاره لسنوات قد توازي سنوات عمرنا. فخبر وفاتها كان ككذبة أول نيسان، يتردد على مسامعنا سنوياً، إلى درجة أننا لم نصدّق موتها صباح اليوم. سخر كثيرون من طول عمر العاشقة الأبدية للحياة، لكنها صدّتهم بمرحها وضحكتها الدلوعة وإصرارها على العيش والغناء بمظهر جميل وأنيق حتى النفس الأخير. بجمال صوتها الريفي المغناج الذي يحاكي الحداثة، والذي كان مسرحاً لألحان تقليدية وشعبية وتراثية وتجريبية، تصدّت لكل قيودنا وألسنتها اللاهبة. لم تترك طبقة في الصوت إلا جرّبتها ونجحت في ذلك متربعة على عرش النجومية. عاشت الصبّوحة عمراً طويلاً مريراً وجميلاً، قاسياً وحالماً، ثرياً وفقيراً، لكنها لم تكن مرتاحة البال. عاشت نجمة المسارح والمهرجانات والفن السابع التي لا يمكن نسيان وجهها الفاتن وجسدها المغري أبداً، حياة متناقضة ومرتبكة ظلت تبحث فيها عن الحب حتى الرمق الأخير. عشقها جمهور واسع لا يعدّ، ورجال كثر وتزوجت مراراً، لكنها لم تحصل على الحب الذي تمنّته يوماً. "لم يحببني رجل لشخصي" قالت لي عندما قابلتها لمرّة واحدة برفقة الزميلين محمد علي فرحات وعبدالغني طليس في غرفتها الصغيرة في أحد فنادق الحازمية – جبل لبنان. كنت أعرف تماماً أن هناك سرّاً خلف كل تلك الزيجات السريعة، لذا سألتها عن الحب. وعلى رغم ذلك، كانت المرأة فرحة وتضحك من قلبها كأن كل تلك السنوات المرّة مرّت أمامها كشريط فيلم مليء بالصور. وهنا تستحضرك أغنية "ساعات ساعات" التي تمثّل حالة صباح فعلياً بمرارتها وحلاوتها. في عام 2010، كانت الصبوحة قد أتمت حوالى 60 سنة من النجومية والتعب والسفر، لكن سرّها كان فاتناً. لفتني خلخالها الذهبي المشغول بحبات الروبي والفيروز الصغيرة المنمنمة المتناسق مع سوارها وعقدها. كانت تعبة وعواصف العمر والوحدة والمرض والفقر ظاهرة على جلدها وعينيها الحزينتين. لكنها لا تُهزم أبداً. صفّفت شعرها الأشقر، ارتدت سروالاً من الجلد وبلوزة ملوّنة ضيقة على الموضة، وانتعلت "كندرة" بكعب عال، وتعطّرت لتستقبلنا بأجمل حللها. كل شيء فيها كان مبهراً ذاك المساء، حتى ذاكرتها كانت خضراء كورق النعنع الطري. أخبرتنا عن وصولها إلى مصر وكيف اكتشفها قصير يونس المتزوج بابنة أخت آسيا داغر، وهي تمثّل على مسرح المدرسة، وكيف سافرت إلى مصر لتلتقي حاضنتها الفنية الأولى آسيا داغر التي أنتجت لها الفيلم الأول في عنوان "القلب له واحد" من إخراج هنري بركات الذي قالت الصبوحة إنه كان ينوي الزواج بها لكنها لم تقبل. الحديث معها يطول ولا ينتهي، حدّثتنا عن السياسة وحبها واحترامها للملك فاروق وأخواته وأمه، وعن الأزياء ومحال "عمر أفندي" الذي كانت تشتري ثيابها من عنده قبل أن يتولى المصممون الاهتمام بأناقتها وأولهم جوزيف هاروني حيث "فتّيت عملة كتير على أزيائي"، وعن "نادي الشرق" الذي كانت تغني فيه وتلتقي كثراً من اللبنانيين والأجانب المقيمين في مصر، وعن تحرر المرأة المصرية في الخمسينات والستينات. ولم تتردد في الحديث عن حماستها لجمال عبدالناصر في بدايته وكرهها له في ما بعد. لم تكن صباح صاحبة موقف سياسي حاسم أو فنانة ثورية بالمعنى التقليدي للكلمة، على رغم أنها غنّت للوحدة المصرية - السورية وللبنان، لكنها كانت ثورية على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي. كانت المرأة المغرية التي تذوّب قلوب الرجال لرؤيتها، تخوض معارك ضد الذكورية من دون أن تدري بدءاً من أبيها وزوجها الأول الذي حرمها من ابنها وحماتها والناس، وصولاً إلى عبدالناصر الذي عصت أوامره والذي جعل زوجها أنور منسي يتخلى عن جنسيته. خاضت معارك من أجل فردانيتها، وضد العادات والتقاليد وضد العنف الأسري. هي إذاً، كانت ثورية على الصعيد الشخصي بالفطرة. وهذه ثورة نحتاج إليها قبل أي ثورة سياسية ضخمة وجماهيرية. فلو طالبت كل امرأة بما طالبت به صباح ورفضت الأمر الواقع وتحدّت كل الظروف، لكانت ثوراتنا التحررية اليوم في مقلب آخر. الجميلة المتحررة عندما كنت صغيرة كرهت صباح للضحكة الرائعة التي جعلتني أحبها عندما صرت أفقه بالموسيقى والفن الشعبي والجمال. كرهتها لدلعها نفسه الذي أعطته نكهة فريدة على شاشة السينما. كرهتها لأنها كانت مزواجاً و "تحب الرجال" كما كانت تقول جدتي ساخرة منها ومن صيتها. كرهتها لأنها عصت أوامر والدها وقبّلت الرجال في أفلام السينما. لكن، لهذه الأسباب كلها أحببتها عندما صرت أعرف لذة الحب ومرارة الخيانة، وعندما تعلمت العصيان والتمرد. وسأحبها دائماً لأنها سبقت كل حركات التحرر النسائية وكسرت الجدران الأسمنتية التي فرضها عليها المجتمع. تلك الديفا المعطاء هي فعلاً أسطورة بصوتها البديع المتعدد الطبقات والألوان، وبتمثيلها المتقن وجمالها النادر، وفي حياتها الشخصية المليئة بالحكايات والخيانات وقصص الحب والرحلات والثراء الفاحش والفقر المدقع. أسطورة لأنها لم تتعلم التمثيل ولا الغناء ولم يكن لديها مدير أعمال أو شركة إنتاج تتبناها وتسوّق لها، بل اعتمدت على الموهبة والجمال بالفطرة من دون أي "مواد إضافية".