هل من مفاضلة بين الشعر والنثر؟ عندما دخل العصر الحديث تنبأ أحد الفلاسفة أن النثر هو الأصدق تعبيراً عن مزاج العصر، ذلك لأن الناس بدأت تفكر بعقولها أكثر مما تفكر بعواطفها، والنثر أقرب إلى التفكير بالعقل. هذه ليست دعوة ضد الشعر. سيبقى الشعر تعبيراً عن العواطف الإنسانية، لكنها التفاتة إلى حاجة من حاجاتنا العصرية. وسيظل الانسان في حاجة إلى الشعر عندما تطلب عواطفه ذلك. المشكلة إن «الشعر ديوان العرب». لهذا، تجد العربي ينظر إلى العالم شعراً. والنظر من خلال الشعر إلى مستجدات ومتغيرات عالمنا الحديث نوعٌ من الانتحار. نعم، الانتحار! لذلك تجد العرب في مؤخر الصفوف جراء هذه النظرة. في التراث العربي كتابات نثرية عديدة، يأتي في مقدمها القرآن الكريم. فهذا الكتاب غيّر نظرة العرب إلى العالم، وجعلهم أمة تنظر إلى عالمها بمسؤولية. ولسنا هنا بصدد مناقشة رأي طه حسين، بأن القرآن ليس شعراً ولا نثراً... فما هو إذاً؟ القرآن نثر... وموضوعاته التي تناولها من تشريع وقصص وحض على الفضيلة موضوعات نثرية. .. وإنه كذلك. ثم تأتي بعد القرآن كتابات الجاحظ ككتاب «البخلاء» وكتاب «الحيوان». فبعدما أسس القرآن لمجتمع مستقر كان من الطبيعي أن تتطور اللغة. ورأي محمد عابد الجابري بأن «الأعرابي صانع العالم العربي» رأي غريب عجيب. فالأعرابي تجاوزه القرآن الكريم وكل الكتابات التي جاءت بعده. ولا بد أن تتطور اللغة ولا تقف عند الأعرابي. ثم لدينا في النثر الفكري العربي كتابات الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد. فابن سينا، صاحب «الكليات في الطب» كان شاعراً أيضاً، وهذا يدل على غلبة الشعر على النثر في الثقافة العربية. وقد ألف ابن سينا قصيدة في النفس، وهي من الفلسفة العالية، يقول في مطلعها: هبطت اليك من المحل الأرفعِ ورقاء ذات تدلل وتمنّع... والورقاء هي الحمامة، ويقصد بها النفس أو الروح. أما الفارابي فقد نحى منحىً أفلاطونياً، وله «المدينة الفاضلة»، وهي كجمهورية أفلاطون إلا إنها ذات طابع إسلامي. أما ابن رشد، صاحب «فصل المقال بين الحكمة والشريعة من اتصال». وقد درج الفلاسفة والمسلمون على تسمية الفلسفة بالحكمة، وهو تعريب جيد. وحاول ابن رشد التوفيق بين العقل والإيمان، ولابن رشد تأثير في أوروبا، وقد قامت مدارس وجامعات في باريس وغيرها على أساسه، وتأثر به وبفلسفته علماء أوروبيون كثيرون. وبعد ابن رشد، يأتي الغزالي الذي رد عليه في «تهافت الفلاسفة»، وله «المنقذ من الضلال» .. وهو كتاب صغير جداً. ثم تأتي «مقدمة ابن خلدون» وهي كتاب جامع كبير وتشمل تصوره ل «علم العمران» الذي هو «علم الاجتماع». كما انه يؤسس في المقدمة نظرات في تطور المجتمعات العربية بين حضارة وبداوة. ومن القصص قصة «حي بن يقظان»، وحيّ هو الانسان ويقظان هو الله سبحانه وتعالى. وتدل هذه التسمية على تسامح الفكر العربي واتساع أفق أعلامه. هذه مجموعة من النثر الفكري الراقي وقد حان الوقت لأن تلتفت جامعاتنا لهذا التراث الحي وتدرّسه، لأنه يفتح للفتيان والفتيات آفاقاً رحبة من التفكير. ولكن «الشعر ديوان العرب؟» وهذه هي المشكلة الأساسية! * أكاديمي وكاتب من البحرين