ينتهي العام للمعارضة الأوكرانية بمقدارٍ من الإحباط. إذ حقق الرئيس فيكتور يانوكوفيتش انتصاراً آنياً مزدوجاً عليها بالاستناد إلى ثنائية «الشقيق الأكبر» الروسي بالدعم والابتزاز. فعبر توظيف موسكو 15 بليون دولار في سندات الدولة الأوكرانية وخفض أسعار الغاز بنسبة 30 في المئة والوعد بتسهيلات تجارية في سوقٍ يستقبل ربع صادرات كييف، أمكن للرئيس الذي لعب لوقتٍ مديد لعبة «التوازن» بين الدعوة إلى توثيق العلاقة بموسكو والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن يُشرعِن في آن «تأجيل» توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية والسياسية مع «الاتحاد» إلى موعد غير مُحدد، وإعادة الأفضلية للعلاقة مع روسيا وترك نافذة الاحتمالات والتكهنات مفتوحة لجهة التنازلات التي قد تكون قُدِّمَت أو ستقدَّم لبوتين، سواء على مستوى مشروع الاتحاد الجمركي ل «رابطة الدول المستقلة» الذي أعلن أنه يمكنه الانضمام إلى بعض بنوده، أو على مستوى دلالة الاتحاد المذكور في «إعادة تكوين» افتراضية للإمبراطورية، وهو ما أشارت إليه جريدة «فايننشيال تايمز» بالقول إن «الاتفاقات التي وُقِّعَتْ في موسكو أعطت ميزة استراتيجية لروسيا في وجه أوروبا». علامة الإحباط الأبرز تمثلت بتراجع حجم التظاهرات والتجمعات التي تلتقي في ساحة الاستقلال (مَيْدان) في كييف التي أعيدت تسميتها أورو-ميدان. فمن 350 ألف متظاهر ضد الحكومة (مقابل خمسهم معها) في الذروة، انخفض العدد في التظاهرات التالية لاتفاق موسكو إلى معدَّل 40 ألفاً، ما اضطر منظميها إلى إعادة النظر في شعاراتهم. فهذا الحراك الذي بدأ في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) تحت شعار توقيع اتفاق الشراكة الأوروبي ورفض توقيع أي اتفاق مع روسيا وتوسيع الحريات وإطلاق يوليا تيموشينكو رئيسة الوزراء السابقة، ليتطوَّر بعد القمع البوليسي الذي ووجه به، إلى المطالبة بمحاكمة المسؤولين وباستقالة الرئيس و «سقوط النظام»، بدا مُرتبكاً بعد العرض الروسي الذي وصفه رئيس وزراء أوكرانيا بأنه مُنقذها من الإفلاس الوشيك، بخاصة بعد تلقي كييف أول شطرٍ منه (3 بلايين دولار) أُعلن أنه سيُخصَّص لتمويل التقديمات الاجتماعية كدعايةٍ له في وجه الاتفاق المُرجأ مع الاتحاد الأوروبي، الذي كان سيفتح الطريق لاستئناف قروض صندوق النقد الدولي، المربوط بإجراءات وبإصلاحات هيكلية بعضها غير شعبي ويؤثر سلباً على حظوظ يانوكوفيتش في إعادة انتخابه عام 2015. بيْد أن ارتباك المعارضة يقترب من أن يكون حالتها «الطبيعية» في دولةٍ هي ذاتها إشكالية وتعاني تاريخياً كدولة-أمة رضوضاً تكوينية ومنظومية متراكبة وترِث تمايزات ثقافية ليس أقلها الصراع بين اعتبار اللغة الأوكرانية لهجة محلية روسية أو لغة، وما يصحبه من تمزقٍ وادعاءات هوياتية متباعدة على قاعدة وجود أقلية روسية كبيرة (17 في المئة من السكان) تتكرَّس في شرق البلاد وجنوبها، وميل أنتلجنسيا العهد السوفياتي وبيروقراطيته وأوليغارشيا ما بعده إلى الرَوْسنة والتماثل. كما ترِث صراعاً في وعلى الأرثوذكسية جعل كنيستها التي بدأت كمهد للمسيحية السلافية تنقسم إلى ثلاث: واحدة تتبع بطريركية موسكو وتؤيد التقارب معها وثانية «أوكرايينية» في بطريركية كييف وثالثة تجْمَع بين الشرقية والكاثوليكية (الأونيات)، والأخيرتان عضدتا الحركة الاحتجاجية. وهو إرثٌ عقَّدته سبعة عقود من الرزوح تحت الديكتاتورية السوفياتية التي سبقتها وتخللتها حروب أهلية متفاوتة الأحجام والأسباب، للانفصال عن روسيا أو إعادة الانضمام إليها قبل وبعد «ثورة أكتوبر1917» ومجاعات ستالينية منظمة لإرغام المزارعين والفلاحين على الدخول في «جنة» الملكية الجماعية للأرض، وثلاث سنوات من احتلال الجيش الهتلري الذي استخدم في المذابح ضد الشيوعيين واليهود المجموعات الأكثر تطرفاً بين القوميين الأوكرانيين النازعة إلى الاستقلال والانفصال، والتي تجذرت واتجهت إلى العمل المسلح منذ أوائل العشرينات، بعد إنهاء السلطة السوفياتية الدموي ل «الجمهورية الأوكرانية الشعبية» الليبرالية الطابع. وثمة ما يدعو إلى التأمل عندما نرى تحالف «أوكرانيتنا» الذي كان يتزعمه الرئيس السابق فيكتور لوتشينكو وقاد «الثورة البرتقالية» عام 2004 يخاصم بطلتها الأخرى تيموشينكو ويخسر الانتخابات التشريعية عام 2006 ولا يحصل على أي مقعد في انتخابات 2012، وعندما يكون يانوكوفيتش زعيم «حزب الأقاليم» المرتبط بالأوليغارشية المالية لحوض الدونتسك المتولدة عن خصخصة القطاع الصناعي والمنجمي والتبادل مع موسكو، هو الذي أطاحت تلك الثورة انتخابه بالتزوير ليعود ويُنتخَب عام 2010. وإذا كان المثالان يعكسان الصورة المضطربة لقيادة المعارضة الليبرالية ومصائرها، فإن الوجود المتزايد لأقصى اليمين داخل الحركة الاحتجاجية يضعف تماسكها وصدقيتها. فاسم حزب «سفوبودا-الحرية» الذي حطَّم أعضاؤه تمثال لينين خلال الاحتجاجات مقبول مكان الحزب القومي-الاجتماعي الأوكراني لكنه يتمسك بانتمائه إلى تاريخ «تنظيم القوميين الأوكرانيين» ومنشئه المناطقي (أوكرانيا الغربية) الذي شارك في جرائم الإبادة خلال الاحتلال النازي. وقد حقق الحزب اختراقاً في الانتخابات الأخيرة بحصوله على عشرة في المئة من الأصوات. ولا يخرج عن التصنيف التقليدي المابعد سوفياتي في الحركة الاحتجاجية سوى «التحالف الديموقراطي الأوكراني للإصلاح» الذي يقوده الملاكم فيتالي كليشتو وهو حصل على 9 في المئة من مقاعد البرلمان ويخوض معركة ضد الفساد، في حين أن اليسار الشيوعي (13 في المئة من الأصوات) يخوض معاركه الخلفية وراء «حزب الأقاليم». وبالتالي، فالاحتجاجات الأخيرة شعبية ذات طبيعة استقلالية ديموقراطية ترى في الارتباط بأوروبا مدخلاً إلى نتيجتين على الأقل: الأولى تفكيك منظومة الرأسمالية الأوليغارشية وطابعها الإفسادي المُفقِر لاقتصادٍ يتراجع منذ حملات الخصخصة بداية التسعينات، وحيث يتفاقم عجز الموازنة وميزان المدفوعات عاماً بعد آخر، والثانية تغليب الديموقراطية وقيمها على محاولات الإلحاق الروسية وترسانتها التسلطية والطامسة للهوية الوطنية الأوكرانية. ذلك يجعل اتفاق موسكو محطة مؤثرة إنما غير حاسمة لحل الأزمة الاقتصادية، ولا النزاع المديد حول مستقبل أوكرانيا وحكمها وعلاقاتها. لكنه سيسمح لبوتين بتحويل تسليم القرض مُقسماً على شرائح وتسعير الغاز لمدى قصير أداة تعظيم لآلته الابتزازية في إنهاء الاحتجاجات وتهميش المعارضة وإعادة انتخاب يانوكوفيتش واستخدامه في إعادة بناء «امبراطورية روسية حديثة»، كما يبشِّر أدوار بيروف في مجلة زفلغياد (النظرة الجديدة) وسط انسحابية أوباما وضعف اهتمامات الاتحاد الأوروبي وتشتتها. ويُكمل بذلك ما يعتبر أنه بدأه في الملفين السوري والإيراني.