مثل غيرهم من مواطني العالم الفسيح، استعد كثر من المصريين للاحتفال بالأعياد والتفاوض حول مكان «السهرة» هنا أو هناك، تمهيداً لتفاوض جديد حول سهرة رأس السنة، ولكن بين ثلثاء وآخر تنتهي أمور كثيرة وأولها خطط الاحتفال، إذ قطع الإرهاب الطريق على الجميع، من يحتفلون ومن يجلسون على الكنبة أمام التلفزيون، بحادث تفجير مبنى مديرية أمن الدقهلية. وكالعادة كانت «أون» الأسرع بقناتها ذات البث المباشر، بينما ظلت الفضائية المصرية وقناة الدولة الأولى تواصل عرض برنامج خاص عن «الأزمات» ووضعت صورة الحادث في الخلفية، وبعدها صرح رئيس الفضائية بأنهم ليسوا مقصرين، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، فالعربات والكاميرات شحيحة في أكبر جهاز إعلامي مصري! غير أن هناك من سلك سلوكاً آخر بالبقاء على الهواء لينقل للمشاهدين كل ما صدر عن جهاز الدولة من بيانات، ويتلقى مكالمات المشاهدين القلقة، وكان الإعلامي أحمد موسى مقدم برنامج «الشعب يريد» على قناة «التحرير» هو هذا الشخص الذي استمر أمام الكاميرا من العاشرة مساء الثلثاء حتى الخامسة والنصف صباح الأربعاء، ولم يكن هذا الماراثون التلفزيوني للمزايدة، وإنما إدراكاً لمدى قلق الملايين. في هذه الأثناء تراجعت البرامج الاحتفالية التي أعلن عنها، وفقد بعض ما عرض منها مشاهدوه الذين توجهوا إلى قنوات الإعلام الفوري لمعرفة المزيد عن الحادث وزيادة أعداد الضحايا واكتشاف أمور جديدة، غير أن إعلام الضرورة القصوى لم يقف وحده، إذ دعمته خزائن الإذاعة المصرية وأرشيفها العامر، بتغيير خرائط الأغاني وبرامجها، فإذا بالغناء الوطني يسود محطات الإذاعة المصرية ابتداء من مساء الثلثاء. وكان مدهشاً اكتشاف هذا الرصيد من الأغاني التي تدعو إلى التمسك بالوطن والوقوف صفاً واحد ضد العدو (كان العدو في هذه الأغاني والأناشيد هو إسرائيل بينما أصبح الآن إرهاب جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها)، وعلى رغم تتابع العقود، وزيادة عدد الأعداء إلا أن الأناشيد في هذا الزمن (1952) كانت تطالب بمطالب اليوم ذاتها: الحريات، والحقوق، حتى الدستور طالب به عبد الوهاب في نشيده «اليوم فتحت عنيا... على صوت بينادي علي... الدنيا بقت حرية»، ليصل به الأمر إلى أن يقول «اليوم بقالنا دستور... يساوي بين الحاكم والمحكوم... الخ»... وهي كلمات تنطبق على ما يجري في إطار الاستفتاء على الدستور الجديد بعد أسبوعين، وربما لو راجع أحدهم مضامين الأغاني والأناشيد التي قيلت بعد ثورة 1952 لوجد الكثير منها ينطبق اليوم، بعد 60 عاماً. غير أن استعادة هذه الأعمال لم يكن سببها اكتشاف عبقرية مبدعيها، وإنما البحث في مادة تناسب الحادث البشع الذي خلف ضحايا، ووضع الإعلام في مأزق... ويا لها من مشكلة حقيقية تواجه خطط الإعلام في الأيام المقبلة، بمثل ما تواجه خطط المشاهد وتنغص عليه حياته.