اكتسبت الدعوة الى الحياد في الحروب الدولية تأييد الرأي العام وقسم من النخبة السياسية في العديد من الدول العربية. واتسع هذا التأييد وعمّ غالبية المواطنين في دول عربية رئيسية مثل مصر والعراق خلال الحرب العالمية الثانية عندما أعلنت تركيا حيادها في تلك الحرب، خلافاً لموقفها من الحرب العالمية الأولى. وبفضل موقفها في الحرب الثانية تمكنت تركيا من حماية اراضيها وشعبها من الخسائر الهائلة التي تعرضت لها شعوب اخرى ساهمت في الحرب او انجرت اليها. الا انه بينما نجحت تركيا في تطبيق سياسة الحياد، فإن الدول العربية لم تتمكن من تطبيقها. على العكس من ذلك فقد دفع الذين دعوا الى هذه السياسة هم انفسهم ثمناً باهظاً بسبب هذه الدعوة. فكانت الحرب التي شنتها بريطانيا على حكومة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 حرباً، الى حد بعيد، على فكرة حياد العراق. اما في مصر فلم يكن مصير الدعوة الى الحياد الواقعي او الرسمي افضل من مصيرها في العراق، اذ تدخلت القوات الحليفة لكي تعزل بالقوة الحكومة المصرية التي اتهمت في مطلع الاربعينات بأنها كانت تميل الى فكرة الحياد. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية في منتصف الاربعينات، لم تتغير النظرة العربية الى الحياد الدولي، بل اكتسبت زخماً اكبر اذ تبنتها نخب حاكمة جديدة مثل «الضباط الاحرار» في مصر والقيادات الاستقلالية في كل من سورية ولبنان. وبفضل هذه القيادات تحول الحياد من دعوة ومشروع الى سياسة طبقت بخاصة بعد انعقاد مؤتمر باندونغ الشهير الذي اطلق سياسة عدم الانحياز. ولقد تمسكت دول باندونغ بسياسة الحياد رغم ان الحرب الباردة لم تترك مساحة واسعة من حرية الحركة للحكومات المحايدة. ومن ثم تحول الالتزام بهذه السياسة الى معلم مهم من معالم التمرد على هيمنة الدول الكبرى. على خلفية الدعوة الى الحياد وما ترمز اليه من دلالات، تجري الدعوة بين فرقاء من اللبنانيين الى حياد لبنان. الا ان هذه الدعوة اليوم تختلف عن الدعوة الى الحياد بالامس. ففي السابق هدف الحياد وعدم الانحياز الى الابتعاد عن المحورين الدوليين. اما الحياد المقترح اليوم فإنه دعوة الى الابتعاد عن الصراع بين قوى اقليمية. وتذهب هذه الدعوة احياناً الى اقتراح الحياد بين العرب واسرائيل. من هذه الناحية، فإن الدعوة الى حياد لبنان او اي بلد عربي آخر، لا تخدم استقلال لبنان وسيادة شعبه وحريته. ولنا في تاريخ الصراعات الدولية والإقليمية المشار اليها اعلاه بعض الدروس المفيدة حول التناقض بين الدعوة الى الحياد، من جهة، والاستقلال، من جهة اخرى. لقد لجأ السويسريون، في بداية عهدهم بالاستقلال الى اعتماد سياسسة الحياد، او بالاحرى الى التمسك باستقلال بلادهم وبحقها في اتباع السياسات التي تناسب مصالحها الوطنية. ولكن لم يتمكن السويسريون من المضي في هذه السياسة الى آخر الشوط، اذ انهم وجدوا انفسهم يخوضون المعارك والحروب دفاعاً عن سيادتهم وعن مصالحهم، ويتكبدون الخسائر الفادحة. بعد هذه التجارب المكلفة، استنتج السويسريون ان الدفاع عن الوطن له ثمن، وأن هذا الثمن قد يكون باهظاً احياناً. لذلك قرروا الانتقال من مرحلة الاستقلال السلامي الى مرحلة الاستقلال المسلح. في هذه المرحلة الجديدة طبق السويسريون سياسة الدفاع الوطني الشامل. هذه السياسة اقتضت ان يكون لكل سويسري وسويسرية الدور الفاعل في الحرب، والدور المتناسب مع قدرات وأوضاع الافراد السويسريين. كذلك اقتضت هذه السياسة ان تتأسس القوات السويسرية على النسق الذي طبع الدولة السويسرية اي باللامركزية الواسعة، مما عمق شعور السويسري بواجبه الوطني. عبر السويسريون عن شعورهم هذا في كراس وزعته عليهم الادارات المولجة بالتعبئة العسكرية. جاءت في هذا الكراس الفقرة التالية حول نظرة الفرد السويسري الى البندقية التي تمنحها الدولة له لكي يدافع عن الوطن. يقول الكراس: «في المعركة، امتلك البندقية التي سوف تمكنني من التغلب على العدو. انها رمز استقلال وقوة الوطن الام: سويسرا التي أحب». ان سياسة الدفاع الوطني الشامل لم تقتصر على توزيع السلاح على الشعب لكي يقوم بدوره في الدفاع عن الوطن فحسب، ولكنها اقترنت ايضاً بتعبئة سائر الطاقات الرسمية والأهلية للدفاع عن الوطن، واتخاذ كل التدابير التي تمكن السويسريين من الثبات لفترة طويلة في ارض المعركة ولاستننزاف القوات الغازية. في هذا السياق بدت سياسة الارض المحروقة خياراً رئيسياً أعدت له العدة الكاملة لحرمان العدو من اية فائدة يجنيها اذا نجح في اختراق الارض السويسرية والاستيلاء على جزء منها. تمكن السويسريون بفضل هذه الاستعدادات من النجاة من الاحتلال الالماني خلال الحرب العالمية الثانية. فرغم البغض العرقي والعقائدي الذي كان هتلر يكنه للسويسريين، ورغم نصائح بعض منظري السياسة العسكرية الالمانية بصدد اهمية احتلال سويسرا، وجد هتلر ان من الأسلم الابتعاد عن هذا العمل بخاصة بعد ان أطلعه ضباط من القيادة العسكرية الالمانية على الكلفة العالية التي ستدفعها المانيا اذا حاولت اجتياح سويسرا. لقد اتبعت بلجيكا نفس السياسة المعلنة التي اتبعتها سويسرا. فقد اعلنت حيادها في الحرب، ونفذت ما اعتبره زعماؤها سياسة الاستقلال المسلح. ولكن مصير بلجيكا آنذاك اختلف عن مصير سويسرا. لماذا؟ يعزو بعض المؤرخين هذا السبب الى الاختلال بين الاستقلال المسلح السويسري، والاستقلال المسلح البلجيكي. السويسريون نفذوا سياسة رمت الى الزج بكافة الطاقات السويسرية في الحرب. بالمقابل اقتبست بلجيكا النموذج الفرنسي للدفاع عن نفسها. فكما بنت فرنسا خط «ماجينو» القوي التي ظنت انه سيحميها من الغزو الالماني، وكما سخرت كل شيء لتقوية هذا الخط وتدعيمه حتى لا تتمكن الدبابات الالمانية من اختراقه، بنت بلجيكا خطاً مماثلاً، ووضعت فيه كل بيضها العسكري وأملت انه سوف يكون الساتر الذي يحميها من الاحتلال الالماني. ولكن هذه السياسة لم تنجح، اذ تمكن الالمان بسهولة من اختراق الخطين الفرنسي والبلجيكي. لم تتمكن بلجيكا من الصمود اكثر من 18 يوماً في وجه القوات الالمانية المغيرة على اراضيها. هذه التجارب مليئة بالعبر. ان الاستقلال لا يصان بالاتفاقات الدولية وحدها، بل لا بد له من قوة تحميه بخاصة اذا كان الكيان المجاور شبيهاً بالكيان الاسرائيلي الذي لا يقيم وزناً للشرعية وللمؤسسات الدولية. اذا اراد لبنان ان يحمي استقلاله من هذا «الجار»، واذا اراد اي بلد عربي مجاور لاسرائيل حماية ارضه ومصالحه، فحري بحكامه وقادته ان يدرسوا بعناية ودقة الفارق بين التجربتين السويسرية والبلجيكية خلال الحرب العالمية الثانية. * كاتب لبناني