تواجه جماعة الإخوان المسلمين في مصر مأزقاً سياسياً كبيراً بعد إتمام لجنة الخمسين مشروع الدستور الجديد ودعوة الرئيس الموقت عدلي منصور الناخبين للاستفتاء عليه في منتصف كانون الثاني (يناير) المقبل، ذلك أن الإخوان الذين يصرون على عودة شرعية الصندوق- بدلاً من شرعية الشارع - وجدوا أنفسهم في مواجهة صندوق جديد سيلغي الشرعية التي يصرون عليها. وهم إذا قبلوا المشاركة في الاستفتاء على الدستور الجديد، فهذا يعني ضمناً اعترافهم بشرعية التحرك الجماهيري الذي أسقط حكم محمد مرسي في الثالث من تموز (يوليو) الماضي، وقبولهم بنتيجة الاستفتاء إن جاءت بنعم. وإذا هم آثروا مقاطعة الاستفتاء على الدستور، فهذا سيؤدي بالتأكيد الى ان غالبية من سيدلون بأصواتهم في الاستفتاء ستكون من المؤيدين، فيحصل الدستور على غالبية كبيرة بنعم. فماذا يفعل الإخوان عندئذ للخروج من هذا المأزق؟ تقول جماعة الإخوان المسلمين انها لن تقبل الدستور الجديد لأن من تولوا كتابته - على رغم أنهم يمثلون جميع شرائح الأمة المصرية - كانوا غير منتخبين، أما دستورهم فكتبته لجنة اختارها ممثلو الشعب في البرلمان، مما يمنحها شرعية. ومن المعروف ان الشرعية تأتي من طريق الالتزام بحكم القانون وأن المحاكم القضائية هي التي تقرر هذه الشرعية. ولو طبقنا هذا على اللجنة التي كتبت دستور الإخوان، لوجدنا انها - ليست فقط مخالفة للشرعية - بل جاءت نتيجة اغتصاب الشرعية بالتحايل على القانون. فمنذ انضمامهم في 28 كانون الثاني 2011 الى ثورة ميدان التحرير، رفض الإخوان المسلمون التوافق مع باقي أطياف الأمة على كتابة الدستور. وبينما أراد الثوار الذين أطاحوا نظام الحزب الوطني إقامة نظام مدني ديموقراطي يسمح بالمعارضة وتبادل السلطة، عمل الإخوان على إقامة دولة الإسلام السياسي التي لا تبيح لغير الإسلاميين تولي الحكم في البلاد. وعندما طرح علي السلمي- نائب عصام شرف رئيس الوزراء المصري آنذاك- وثيقة تتضمن المبادئ العامة التي يجب أن يقوم عليها دستور الثورة المصرية، اعترض الإخوان على هذه الوثيقة، وهددت جماعات الإسلام السياسي بالنزول إلى الشارع والاعتصام حتى يتم إلغاء وثيقة الدستور. وحيث أنهم كانوا يتوقعون أن تكون لهم الغالبية في مجلس الشعب الجديد، أصر الإخوان على ان يقوم هذا المجلس باختيار الجمعية التأسيسية التي تكتب الدستور الذي رفضوا ان ينص على مدنية الدولة، حيث كانوا يخططون لإعلان الجمهورية الإسلامية. وبعد حصولهم وحلفائهم على غالبية حوالى 70 في المئة في انتخابات البرلمان في 2011، قرر الإخوان اختيار لجنة الدستور وصمموا على ان تكون لهم الغالبية المطلقة فيها، لكن التيارات المدنية لم توافق على تشكيل اللجنة. ولما كان الدستور هو النتاج الأساسي لأية ثورة في العالمن فقد رفض الليبراليون سيطرة جماعات الإسلام السياسي على لجنة الدستور. فبعد ثورة 1919 تشكلت لجنة لوضع دستور سنة 1923 على أساس نظام الملكية البرلمانية، وتكونت هذه اللجنة من المفكرين ورجال القانون ورجال الدين والأعيان ورجال الأعمال. ولم يحدث في تاريخ النظم الديموقراطية ان يتولى البرلمان اختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، بل أن يشارك أعضاؤه كذلك في هذه اللجنة. فالبرلمان يعبّر عن مرحلة سياسية موقتة، ويمكن ان يتغير اتجاهه في الانتخابات التالية، أما الدستور فيتضمن مبادئ ثابتة تحفظ مصالح الأمة بجميع طوائفها واتجاهاتها، وليس لمصلحة حزب الغالبية. لهذا قرر ممثلو الأحزاب والأزهر والكنيسة الانسحاب من لجنة الدستورن وأصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً بإبطال اللجنة التي شكّلها البرلمان. لجأ المعترضون الى القضاء، وأصدرت المحكمة الإدارية العليا قراراً بإلغاء الجمعية التأسيسية لأنها لا تمثل غالبية أطياف الشعب المصري، ثم اصدرت المحكمة الدستورية العليا قراراً بحل البرلمان نفسه، نتيجة لمخالفة قانون الانتخابات. لكن الوضع تغيّر بعد انتخاب محمد مرسي- التابع لجماعة الإخوان المسلمين - رئيساً للجمهورية. فلم ينتظر الرئيس الجديد طويلاً بعد وصوله الى قصر الرئاسة، حتى فاجأ المصريين بقرار جمهوري يقضي بإعادة مجلس الشعب الإخواني الذي تم إلغاؤه بقرار من المحكمة الدستورية العليان علماً أن المحكمة الدستورية ستلغي قرار مرسي بعودة المجلس، أسرع نواب الإخوان الى تشكيل جمعية ثانية لكتابة الدستور، بنفس التشكيلة السابقة، بحيث أصبحت لهم مع حلفائهم غالبية الثلثين لتمرير الدستور. وعندما صدر قرار المحكمة الدستورية بإسقاط البرلمان الذي أعاده الرئيس، أصدر مرسي إعلاناً غير شرعي في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، يمنع القضاء من النظر في تصرفاته هو، كما يمنع المحاكم من الحكم بعدم شرعية لجنة الدستور. وتنفيذاً لقرارات مرسي، قامت جماعات الإسلام السياسي بتهديد القضاة ومنعهم من الدخول الى مقر محكمتهم الدستورية حتى لا ينظروا في القضايا المعروضة أمامهم، والتي تؤدي الى الحكم بعدم شرعية الجمعية التأسيسية للدستور ومجلس الشورى. وحاصرت ميليشيات الجماعة مقر المحكمة الدستورية لمنع القضاة من دخولهان كما هددتهم بالعقاب إذا قاموا بذلك. وحتى تتفادى الجمعية صدور حكم القضاء ببطلانها، أتمت كتابة مشروع الدستور على وجه السرعة، قبل الموعد الذي حددته المحكمة الدستورية لإلغائها وسلمته للرئيس محمد مرسي، الذي تعجّل بعرضه على استفتاء شعبي، حتى قبل أن يقرأه. ورغم خروج الملايين من ابناء الشعب المصري الرافضين لدستور جماعة الإخوان المسلمين، منع الكثيرون منهم من الوصول الى صناديق الاقتراع فلم يصوّت عليه سوى 50 في المئة من الناخبين، ونال الدستور غالبية 66 في المئة مقابل 36 في المئة للرافضين. وهكذا أقامت جماعة الإخوان شرعية دستورها بناء على استفتاء على مشروع كان فاقداً الشرعية أصلاً. وحتى يتخلص الإخوان من المأزق الذي وضعوا فيه بسبب الاستفتاء على الدستور الجديد، قرروا اللجوء الى خطة ذات ثلاثة أبعاد: - رسمياً قرر حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين مقاطعة الاستفتاء على مشروع الدستور المقرر إجراؤه في 14 و15 كانون الثاني المقبل، معلناً نيته في تنظيم حملة لدعوة المصريين الى مقاطعته. - في الوقت ذاته وضع الإخوان خطة لتخويف الناس من الذهاب الى صناديق الاستفتاء، من طريق التهديد بالتظاهرات وأعمال العنف في الشارع. - كما قرر الإخوان سراً تدعيم حملة عبدالمنعم أبو الفتوح - رئيس حزب مصر القوية - بالمشاركة في الاستفتاء لإفشاله من طريق التصويت بلا. وأبو الفتوح - على رغم استقالته من جماعة الإخوان المسلمين- لا يزال يؤمن بمبادئها ويسعى الى تحقيق أهدافها. بل إن اختلاف أبو الفتوح مع الجماعة هو مجرد اختلاف على أفضل الطرق لتمكين الإخوان من السيطرة على حكم مصر، من طريق إخفاء الوجه القبيح. مع هذا يبدو أن خطة الإخوان لن تنجح في وقف خريطة الطريق التي وضعها المصريون لبناء دولتهم المدنية الجديدة، ذلك ان عاماً من حكم مرسي أظهر الوجه القبيح للجماعة أمام المصريين، الذين صمموا على إسقاط شرعية الإخوان والتصويت بنعم على الدستور الجديد. * كاتب مصري