من تعوّد على قراءة أبحاث أحمد بيضون الجدية، الموضوعية، العميقة إلى أقصى الحدود، إن في السياسة أو المجتمع أو اللغة، في كتبه مثل «ما علمتم وذقتم»، «كلمن»، «الجمهورية المتقطعة» أو «لبنان: الإصلاح المردود والخراب المنشود» وغيرها وغيرها، يرى في «دفتر الفسبكة» وجهاً آخر لأحمد بيضون، لا يقلّ عن وجهه المعهود عمقاً، إلا أنه ممهور هذه المرّة بفكاهة وخفة روح، ولو امتزجتا بما عهدنا من فكر جدي رصين. ككل باحث جدي يستهلّ كتابه بإظهار أهمية الموضوع الذي يتناوله: فبالفايسبوك نتعرّف إلى نواح كثيرة من شخصية الفايسبوكي، ويكون الفايسبوك بمثابة إذاعة شخصية، فضلاً عن أنه يكسر عزلة الإنسان ويزيد من ثقته بنفسه، أو العكس، لأنه يكوّن جماعات حول قضية معيّنة يدور السجال بينهم على مواقعه، فيتجلى من خلالها مدى نفوذ كل منهم. نرى خفة الروح أول ما نرى في العنوان: «دفتر الفسبكة»، وكثيراً ما سُئلت عن المقصود بهذه اللفظة الغريبة حين ذكرت الكتاب. فإن دلّت على شيء فعلى تمكن الكاتب من التصرف بألفاظ اللغة التي يتقنها خير إتقان، من اشتقاق أو ابتكار أو صهر ألفاظ أجنبية بلفظة عربية، فيبتكر كلمات جديدة تفي بغرضه. وها نحن هنا الآن أمام «الفايسبوك» وما اشتقّ بيضون من اللفظة بعد تحويلها إلى كلمة «عربية». من هذا القبيل اشتقاقه «الفسبكة» أو «الفايسبوكي» و «الفرند» أو «الصاحب» التي وجدها أنسب من «صديق» التي لا تكون في وضعها هنا. كذلك يستخدم المصطلح الإنكليزي محوّلاً إياه إلى لفظة عربية، مثل «يسيّف» و «يدلّت» و «تشات» و «المسدجات» ((save,delete,chat, messages. ولكنه بتمكنه من اللغة يقترح أحياناً لفظة عربية لترجمة اللفظة الإنكليزية. مثلاً، بدلاً من «ملاحظة» و «ملاحظات» المستخدمة يقترح «فائدة»، «فوائد»، أو «نبذة»، «نُبذ» لترجمة note, notes (ص192). ولا نرى براعته اللغوية في هذا وحده، ففي أحد «مسدجاته» يحاكي أسلوب بديع الزمان الهمذاني في مقاماته ناطقاً باسم راويته عيسى بن هشام فيستخدم «ابو الفتح الفايسبوكي»، راوية أحمد بيضون، أسلوب الهمذاني المسجّع عينه في حواره. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، لا يكتفي الكاتب بمحاكاة الهمذاني، وإنما يضمن «مسدجاته» إشارات كثيرة إلى التاريخ القديم (ص95-96، مثلاً) والأدب الأجنبي، ولا سيما العربي (ص102،110،111،127،147) وقد يحلله (ص149) أو ينقده كنقده نقداً عروضياً بيتاً من أبيات دالية أبي العلاء المعري (ص113-115) أو تحليله بعض ابيات السياب في رائعته «أنشودة المطر» (ص149-150). غير أن بعض «مسدجاته» يتعلّق بقضايا شخصية كحزنه على غياب أستاذه المستشرق الكبير دومينيك شوفالييه الذي آلمه ألا يكون قد ذكره أحد من طلابه الذين كان له عليهم فضل كبير؛ ولا تغيب عنه ذكرى اغتيال المفكر الحر سمير قصير، أو صديقه القديم نصير الأسعد وفراقه، أو ألمه وإعجابه بوسام الحسن الذي اغتيل نتيجة شجاعته وصدقه في قيامه بواجبه بفضح العملاء. من هذا يتضح أن الكاتب لا يفصل تأملاته ومواقفه الشخصية عما يحيط به. تعبّر مراسلاته، في ما تعبّر، عن انتقاده الانحطاط الثقافي في العالم العربي. تعليقاً على «تطيير» رأس كل من الأديبين الأعميين، أبي العلاء في المعرّة وطه حسين في المنيا، يقول: «في وحدة حالهما اليوم إشارة إلى وحدة الحال المستشرية بين المحيط والخليج... العمى الآخذ في التوسع... لا يقوى على تحمّل هذين البصيرين... لا يقوى على تحمّل من كان أعمى البصر، في حالتيهما، سخرية حارقة من عمى البصائر المنتشر». (ص163) وهو يرى أن من اسباب ذلك أن لا حرية للبحث الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو غيره في مجتمعاتنا (ص22). وفي التفاته إلى مجتمعاتنا يثيره وضع المرأة المشين فيها، فمن خلال مقارنته بين صورتين التقطتا لفتاتين يفرق بينهما نصف قرن، يعرض بيضون للتغيير الذي طرأ على وضع المرأة التي ساهمت دعوة قاسم أمين في تحريرها، ووضعها اليوم «حيث يقضم النقاب بعض ما كان الحجاب استردّه، في العقود الماضية القريبة، من «أراضٍ» في «قارة النساء» كان السفور قد انتزعها قبل ذلك». وهنا لا يكتفي بهذا التعليق، فهو عبر مقارنته بين الصورتين يحلّل تحليلاً دقيقاً ممتعاً التعابير على وجه كل من المرأتين ودلالتها والمشاعر التي يستشفها منهما. (45-46)، وفي التفاته إلى قضية المرأة ينتقد انتقاداً شديداً النواب ورجال الدين الذين رفضوا تجريم الاغتصاب الزوجي (ص47-51). وليس هذا مأخذ الكاتب الوحيد على السياسة ورجالها في لبنان وعلى رجال الدين. يعرض مفصلاً لإفلاس السياسة في لبنان وأسباب ذلك (ص117-119 )، ولانعدام الروح الديموقراطية انعداماً تاماً، فكل من يخالف الآخر في الرأي يُلجأ إلى اغتياله. ومن أهم مآخذه على إفلاس السياسة في لبنان سيادة الفساد و «اندثار دولة القانون... وفقدان الاستقلال الوطني باستتباع مكوّنات الدولة لقوى الخارج» (ص132) من ايران إلى سورية فالسعودية وأميركا... إلخ. ولا يوفّر انتقاده اللاذع أياً من السياسيين، أياّ كان التيار او الحزب الذي ينتمون إليه. ففي سخرية فكهة من تعاون عون و «حزب الله» يقول: «بعد هذه العشرة الطويلة للشيعة، من يجرؤ على الاعتقاد أن العِماد الرئيس لا يسعى إلى توريث «شعب لبنان العظيم» لصهره الإمام باسيل؟» (ص142) وكأن تحالف عون مع «حزب الله» كان ليضمن لنفسه، أو لصهره، رئاسة الجمهورية حين تنتهي مدة الرئيس الحالي. وفي صفحات كثيرة يهاجم الطائفية والتعصب والتطرّف والدعاة المزعومين الذين يغلطون في النحو والصرف وفي القرآن والحديث... وقد يكون أكثر ما أثار سخرية الكاتب قانون «مضاجعة الوداع» الذي يراد طرحه على مجلس النواب المصري، قانون يجيز للزوج ان يضاجع زوجته الميتة في غضون ست ساعات بعد وفاتها... أما في ما يتعلّق بالأحزاب الدينية/السياسية، فينتقد بيضون «حزب الله» لتدخله في حرب سورية، وينتقد أيضاً في صفحات كثيرة، غيره من أنصار النظام السوري، بمقدار انتقاده معارضي ذلك النظام. وأكثر ما ينتقده عند الإثنين الهمجية. همجية النظام افقدته مسوّغ وجوده، وهمجية الثورة تفقدها تفوّقها الأخلاقي والتأييد العالمي، مما يجعلها في نهاية الأمر بحاجة إلى وصي دولي (ص68-69). وليس انتقاده السياسي موجهاً إلى هؤلاء وحدهم، وإنما إلى إسرائيل (طبعاً) وأميركا (أيضاً طبعاً) والفلسطينيين الذين أدّى انشقاقهم وتناحرهم إلى ازدياد تمكّن اسرائيل منهم. ولكن ليس هذا وحده ما يعطي كتاب بيضون أهميته، فقيمته الفريدة تكمن في فكاهة وسخرية تمهران كل صفحة من صفحات الكتاب، كقوله إنّ نداء «يا حاج» حلّ في السنوات الأخيرة في الأوساط الشيعية محلّ «يا سيّد» حتى لا يبقى غير «سيّد» أوحد، ومحل «يا أستاذ» حتى لا يبقى على وجه البسيطة من أستاذ غير «الإستيذ» (ص57). وتعليقاً على الإشارة إلى «الاتحاد السوفياتي السابق» يسأل: «ليش عيّنوا واحد محلو؟» (ص58)، وفي سخريته من وزير الطاقة جبران باسيل سمّى المولد الذي اشتراه «باسيل» فيقول «أسعد لحظاتي في هذين اليومين حين تنادي عزة (زوجته) من بعيد: «يا أحمد! إطفي باسيل!» (ص99). وفي «أشقاء» لبنان يقول: «على كثرة من نكحوا أم بلادنا، لا نجد لنا إخوة غير أشقاء. كلهم «أشقاء»... «وكلهم عارف مصالحه أحسن المعرفة، ولبنان بينهم القاصر الدائم» (ص139). سخرية ممزوجة بمرارة وألم عميقين. كتاب أحمد بيضون «دفتر الفسبكة» ممتع بمضمونه، بأسلوبه، بفكاهته، وبسخريته المضحكة حيناً، إلا أنها لا تخفي مرارة الكاتب وألمه في معظم الأحيان.