أن ترفع السبابة والوسطى في مواجهة أصابع أردوغان الأربعة، فأنت جرئ. وأن تهتف «بالروح والدم أفديك يا مصر» في خضم هتافات «يوم الأحد العصر (الرئيس السابق محمد) مرسي راجع القصر»، فأنت مغامر. وأن تلوح بألوان الأحمر والأبيض والأسود دوناً عن الأسود وحده، فأنت محارب. وأن تمسك بصورة وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي في مليونية للشرعية والشريعة، فأنت انتحاري. لكن أن تختار صورة الرئيس السابق حسني مبارك لترفعها وتهتف له وتلوح بها، فأنت غريب مريب لكنك صنديد. ومن عجائب القدر أن يجد أعضاء من مؤسسي «حزب الكنبة» المصري أنفسهم رافعين صورة مبارك، إن لم يكن بالفعل أو حتى القول، فبمكامن النفوس وخبايا العقول. والأدهى من ذلك أن يكون أولئك لا من رجال الأعمال الذين يدينون بلحم أكتافهم لخيرات عصر مبارك، ولا لكبار مسؤولين سابقين انتفعوا وفسدوا وارتشوا على مدار عقود ثلاثة مضت، ولا حتى حاملين لبطاقات عضوية الحزب الوطني الديموقراطي المنحل، بل هم مواطنون مصريون عاديون، لا لهم في السياسة ولا عندهم في الاقتصاد ولا التفتوا إلى التأسلم ولا انتفعوا من هذا أو ذاك أو تلك، لكنهم حين يسترجعون شريط حياتهم على مدار السنوات الثلاث الماضية، يجدون أنفسهم متأرجحين بين نفس لوامة على فرحة غامرة وغبطة شاملة تمكنتا منهم عقب سقوط مبارك ونفس غير لوامة على فرحتها بزوال الغمة ولكنها في الوقت نفسه غير مطمئنة لما هو آت، لا سيما أن ما هو سابق من عام من حكم «الإخوان» كان مريعاً كئيباً ودرساً كبيراً. «أنا فل كبير وراض عن العسكر واتخنقت من التحرير» ليس مجرد اسم لصفحة على «فايسبوك» تجمع أصنافاً شتى من المصريين بين رواد قدماء يحملون حباً أو ولاء أو قناعة ما لنظام مبارك ومنضمين ومحبين ومُحرَجين وجدوا في خبايا مصر وتركيبة المجتمع «المفاجئة» وحقيقة الثلة المتأسلمة وواقع النخبة السياسية الضامرة، ما يدفعهم دفعاً ويجبرهم إجباراً على الترحم على همّ كان أحن وفساد كان أرحم وطغيان كان أشفق. الفريق أحمد شفيق وردود فعل مصرية شعبية على حكم البراءة الصادر لمصلحته من محكمة الجنايات من تهمة الاستيلاء على مساحة 40 ألف متر من أراضي «جمعية الضباط الطيارين» بعدما رُدت إلى الجمعية، لم تتوقف كثيراً عند حيثيات الحكم أو أسبابه، لكن منها من هلل فرحاً بحكم البراءة ل «الفريق المحترم» و «المرشح الرئاسي الوطني الذي فضل الانسحاب منتصراً بدل حرق مصر على يد الإخوان»، بل إن كثيرين تداولوا خبر الدعوى القضائية التي رفعها أحدهم مطالباً ب «إلزام» شفيق بالترشح للرئاسة، إضافة إلى «لايكات» عدة وإشادات كثيرة بإعلانه عدم الترشح في حال رشح وزير الدفاع نفسه للرئاسة. رئاسة مصر المقبلة ستكون قراراً «كنبوياً» بامتياز باختلاف انتماءات الكنبة وفئاتها ودرجاتها، فمن كنبويين تشككوا في الثورة وداخلتهم الريبة في نياتها وغاياتها، إلى كنبويين رحبوا بها وتهللوا لها واستبشروا خيراً كثيراً وتغييراً حميداً، إلى كنبويين التزموا الصمت وآثروا الانتظار من دون فرح أو ترح فجاء حكم «الإخوان» وكان ما كان وشهدت مصر النزول الأول لحزب الغالبية الكنبوي في 30 حزيران (يونيو) الماضي، قبل أن يعود أعضاؤه أدراجهم إلى كنباتهم لمعاودة دورهم التاريخي الكلاسيكي في المراقبة من بعد والترقب عن كثب والآذان الصاغية والعيون المفتوحة والأذهان المنتظرة من دون تدخل واضح أو نشاط زائد، على مدار الأشهر الستة الماضية انتظاراً لما هو آت وتحسباً لما هو جار. وجرى العرف القديم أن يقال «اتقِ شر الحليم إذا غضب»، وتحول العرف الحديث إلى «اتقِ شر الكنبويين إذا غضبوا»، وغضب «الكنبويين» وسأمهم وقرفهم بلغ أقصاه. فبعد أشهر طويلة من حرج المكاشفة وكسوف المصارحة وتهيب المجاهرة تسمع في كل مكان تعليقات تتراوح بين «لماذا نسينا أن غاية المنى وكل الأمل في أيام الثورة كانت لكثيرين أن يتبوأ عمر سليمان منصب نائب الرئيس وشفيق منصب رئيس الوزراء؟»، و «شفيق ولا مبارك ولا الجن الأزرق أرحم من الإخوان. خلينا نخلص». وبين «خلينا نخلص» و «خليهم يتسلوا» تتحرك مصر بحزب كنبتها العاتي الذي يراقب ويترقب، ويشاهد ويشهد، ويستمع ويستوعب، وينتظر اللحظة الفارقة ليدلو بدلوه ويقول كلمته. لكن الكلمة المقبلة، سواء كانت عبر استفاء على دستور أو اختيار رئيس أو تخير برلمانيين ستكون فاصلة حاكمة صارمة. فحزب الغالبية «الكنبوي» الذي كلّ انتظار الاستقرار، وكره حكم «الإخوان»، وصُدِم في نخبة لا حس لها أو خبر وتنتابه الآن «نوستالجيا» غامرة إلى زمن الفساد الجميل وتستغرقه حالياً «أبولوجيا» (اعتذارية) لتبرير فرحة بثورة مضت، وصدمة لتأسلم ركب، وكربة لتفسخ حدث سيحسم الاختيار بطريقته الخاصة. «ولا هتيفة، ولا يسقط يسقط حكم العسكر، ولا نشطاء، ولا نخبة، ولا انتخبوني وخذوا الجنة هدية، ولا سكان الكواكب الأخرى عند أفلاطون وأرسطو وسقراط. سنختار صاحب الخبرة ولو كان هولاكو». وبما أن السوق عامرة بأشكال مختلفة وصنوف متراوحة من «هولاكو» وغيره، فإن الحزب سيقول كلمته بناء على مؤشرات ومعطيات ومواصفات ليس بينها القدرة على توفير العيش أو إتاحة الحرية أو تحقيق العدالة الاجتماعية ولا الرغبة في الإصلاح أو التغيير أو الهيكلة ولا حتى ضمان عدم عودة النظام الفاسد أو رجوع العهد البائد أو «الفِل» الغائب، بل القدرة على الضبط والربط والحزم والحسم والإبحار بالسفينة، وإن بقيت وجهة الإبحار غير محددة. لم يحدد صاحب المحل التجاري الصغير الذي علق صورة مبارك في الواجهة اتجاهاً سياسياً أو تياراً أيديولوجياً أو تصنيفاً فكرياً بعينه ينتمي إليه. قال: «لم أكن يوماً معجباً بمبارك أو متيماً بحزبه أو مقتنعاً بحكمه. واليوم ألوم نفسي وأقول لعله كان محقاً! قمة الإحباط؟ ربما! لكنه الواقع».