سهل على الانسان ان يدخل باب الشهرة.. إلا ان المهمة تبدأ في الصعوبة عندما يحاول ان يكون رمزا وطنيا، وتصبح شبه مستحيلة عندما يحاول اختزال وطن في حنجرة.. صوت تجسد جبلا بجانب جبل لبنان، رفض تقسيم أرضه لطوائف، أعلن ان محافظات بلاده يجب ان تتوحد حتى وان كان هذا التوحد على نوتة موسيقية، زاوج في موسيقاه بين ابناء شعب انهكته الحروب، وجد في صوته وألحانه راحة لم يوفرها له الساسة او حتى الأممالمتحدة. رجل اجبر بلاده ان تستيقظ على صوت فيروز وتغفو على ألحانه وصوته، شكل «ربيعا موسيقيا» في زمن البرود العاطفي وحتى الجمود السياسي.. رفض قواعد اللعبة القديمة التي وضعها من هم قبله إلا أن يكون جزءا من اللعبة.. حتى أصبح اللعبة ذاتها.. ببساطة تبث الوكالات خبراً مفاده « توفي وديع فرنسيس الشهير بوديع الصافي مساء الجمعة في مستشفى بيلفيو في المنصورية بجبل لبنان بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 92 عاما « خبر لا يتعدى السطرين إلا انه يحمل في طياته تاريخا حافلا من الانجازات والصراع والحرب، خبر يعيد المتلقي إلى الاول من نوفمبر عام 1921 وتحديدا لقرية نيحا الشوف عندما ولد وديع الابن الثاني لعائلة مكونة من ثمانية ابناء، لم تستمر العائلة طويلا في القرية بل غادرت سريعا إلى بيروت عندما كان في العاشرة، طفولة لا تختلف كثيرا عن ابناء جيله فقر وحرمان هما العنوانان الأبرز. الانطلاقة الفعلية لصوت الجبل كانت في 1938 عندما فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناءً وعزفاً من بين أربعين متباريا في مباراة للإذاعة اللبنانية ايام الانتداب الفرنسي في أغنية «يا مرسل النغم الحنون»، وقتها اتفقت لجنة التحكيم على اختيار اسم «وديع الصافي» كاسم فني له نظرا لصفاء صوته، وكانت إذاعة الشرق الأدنى بمثابة معهد موسيقي تتلمذ وديع فيه. بعلبك.. شاهدة على مجد خالد ل «وديع.. الرحابنة.. وهبي وناصيف» بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية، في أواخر الخمسينات بدأ العمل المشترك بين العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية انطلاقا من أصولها الفولكلورية من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت وديع الصافي وفيلمون وهبي والأخوين رحباني وزكي ناصيف وغيرهم فشارك في مسرحيات العرس في القرية وموسم العز وشكل ثنائيا غنائيا ناجحا مع المطربة صباح في العديد من الاغاني والاسكتشات. شارك الصافي في أكثر من فيلم سينمائي من بينها «الخمسة جنيه» من اخراج حسن حلمي وفيلم «موال» و»نار الشوق» مع صباح في عام 1973 مع بداية الحرب اللبنانية غادر وديع لبنان إلى مصر سنة 1976 ومن ثم إلى بريطانيا ليستقر سنة 1978 في باريس. الحرب أبعدته عن الجبل الذي احتضن أيامه الأخيرة منذ الثمانينات بدأ الصافي بتأليف الألحان الروحية نتيجة معاناته من الحرب وويلاتها على الوطن وأبنائه، يحمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية إلى جانب جنسيته اللبنانية إلا أنه يفتخر بلبنانيته ويردد أن الأيام علمته بأن «ما أعز من الولد الا البلد». غنى للعديد من الشعراء خاصة أسعد السبعلي وللعديد من الملحنين أشهرهم الأخوان رحباني وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وعفيف رضوان ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش ورياض البندك ولكنه كان يفضل أن يلحن أغانيه بنفسه لأنه كان الأدرى بصوته ولأنه كان يدخل المواويل في أغانيه حتى أصبح مدرسة يحتذى بها. غنى اكثر من خمسة الاف اغنية وقصيدة لحن معظمها ومنها اغنية «طل الصباح وزقزق العصفور «التي كانت اولى اغانيه عندما هاجر لمدة ثلاث سنوات الى البرازيل في عام 1947، وعندما عاد بدأ نهر الإبداع في التدفق فكان ابرزها «لبنان يا قطعة سما» و»صرخة بطل» و»الليل يا ليلى يعاتبني» و»شاب الهوى وشبنا» و»مريت ع الدار « و»لوين يا مروان» و»عصفورة النهرين» و»الله يرضى عليك يا ابني» و»الله معك يا بيت صامد بالجنوب» و»موال يا مهاجرين ارجعوا». كما غنى «طلوا احبابنا» من الحان الاخوين رحباني ومع فيروز ونصري شمس الدين غنى «سهرة حب» و»يا شقيق الروح» و»عندك بحرية» من الحان محمد عبد الوهاب» و»على الله تعود على الله « من الحان فريد الاطرش. عاطفيا، في سنة 1952 تزوج من ملفينا طانيوس فرنسيس إحدى قريباته فرزق ب«دنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد». لجنة تحكيم سمته ب«الصافي».. فحَمل حنجرته «نقاء» الساحة مواعيد كان لوديع الصافي خلال حياته مواعيد كثيرة مع منصات التكريم، الشعبية منها والرسمية حيث كرمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية، وحمل أكثر من وسام استحقاق منها خمسة أوسمة لبنانية نالها من خمسة رؤساء للجمهورية. وقفات هكذا هي النجوم عالية في السماء لترسم الطريق لمن يأتي بعدها.. يخطو على نفس الخطى.. هكذا كان وديع.. محباً لزملاء المهنة.. مبتسماً.. لم يبخل على الجيل القادم.. رغم جنسياته الأربع يصرخ عالياً «ما أعز من الولد إلا البلد» وصيته للبنان.. «صرخة بطل» يا ابني بلادك قلبك عطيها وغير فكرك ما بيغنيها إن ما حميتها يا ابني من الويلات ما في حدا غيرك بيحميها بيّك موصّيلك قبل ما مات بلادك صلا للحب صلّيها لو عليها ثقلت الحملات وشي عين غدر اطلّعت فيها مثل الأسد خليك في الحزات صرخة بطل عالكون وديها يا ابني بلادك يوم طلّ النور ضوّت نجومو عا رواضيها والمركب الأول القص بحور فيلك شراعو من شواطيها أرزاتنا مرقت عليها دهور وبعدنا منكبر بماضيها وصبرا عكتف جبالنا ناطور جنون العواصف ما بيلويها يا ابني بلادك جنّة الانسان بصوتك يا بلبل ضل غنيها تنقل ما بين الورد والريحان وحكايتك للساقية احكيها خليك يا ابني عالوطن سهران وعين اللي بيجيها النوم وعّيها وكلّ شبر بنذر من لبنان أرضك لابنك بس خلّيها يا ابني السما تضحكلك وتحميك وتضل درب العز تمشيها وتلّة الأرزة بنسرها نسميك وجوانحك عالريح عليها والغار كل مواسمو يهديك وافكارك قناديل ضوّيها وعالشمس خلّي حلمك يودّيك ودراج فوق دراج تبنيها يوم الرجوع بلادك تلاقيك وعنك خبار المجد ترويها