«لا أريد أن أبقى على قيد الحياة... أريد أن أعيش». صرخة يُطلقها ستيف ماكوين على لسان «سلمون نورثوب» بطل فيلمه الجديد «عبد لإثني عشر عاماً» (12 years a slave)، تكاد تكون لسان حال شعوب عربية كثيرة انتفضت أخيراً على واقعها بعدما ظلت سنوات مكمومة الأفواه في ظل أنظمة قمعية تخطف لذة العيش وتغرق شعوبها في متاهة البقاء. صرخة تزخر بها الأفلام المعروضة في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان دبي السينمائي، مع شخوص تكاد لا تبتعد حالها عن حال «سلمون»، الرجل الأسود الحرّ الذي اختطف عام 1841 من العاصمة الأميركية واشنطن ليُساق إلى العبودية لفترة وصلت إلى إثني عشر عاماً. ولكن، إذا كان بطل ستيف ماكوين ذاق طعم الحرية بعد سنوات العذاب في حقول البيض (عرض الفيلم ضمن برنامج «سينما العالم» في مهرجان دبي)، فإن شخوص الأفلام العربية سائرة نحو مصيرها المجهول مع تلبّد أجواء «ربيعها» الذي يطلّ في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بفيلمين، هما: «سلم إلى دمشق» للمخرج السوري محمد ملص و»هم الكلاب» للمخرج المغربي هشام العسري. ولم يكن غريباً اكتظاظ قاعة مسرح مدينة جميرا بالجمهور(لم يكن هناك مقعد واحد شاغراً) المتشوق لمشاهدة فيلم عابق برائحة الشام، فكيف إن كان يحمل توقيع أحد أبرز السينمائيين العرب. لكنّ صاحب «أحلام المدينة» و»الليل»، لم يرد تحقيق فيلم يسرد الأحداث بطريقة تقليدية، بل تعمّد الاتكاء على أسلوب مسرحي، تختلط فيه الأفكار وتتناثر الحكايات، ليجد المشاهد نفسه وسط حالة من التيه الذي يكاد يشبه الضياع والتمزق وعدم الاستقرار في سورية. في «سُلم إلى دمشق» نسمع الثورة ولا نراها. نسمعها من خلال أصوات الصواريخ والقذائف والرشاشات، ولكن أيضاً من خلال مجموعة شبان يعيشون داخل أسوار بيت شامي عتيق، يكاد يكون صورة مصغرة عن دمشق التي يريدها محمد ملص. دمشق حيث تتجاور الطوائف والانتماءات. دمشق المفتوحة على العالم بانفتاحها على الثقافات. دمشق التي لا تخشى الكاميرا. دمشق المقاومة... كل هذا برؤية تعبيرية خاصة قد تقف حاجزاً أمام تلقي الجمهور للفيلم. أسلوب خاص أيضاً يعتمده المخرج المغربي هشام العسري في فيلمه «هم الكلاب» بعدما لفت الأنظار إليه قبل سنتين في فيلمه الأول «النهاية» بتجريبيته ولغته السينمائية البعيدة من النمطية. في فيلمه الجديد، يصوّر العسري الراهن من خلال عيني سجين سياسي، أطلق سراحه عام 2011 مع موجات «الربيع العربي» بعدما أمضى شبابه في الاعتقال إثر «انتفاضة الخبز» التي طالبت بالإصلاح والتغيير في المغرب. بكاميرا محمولة ترتجف حيناً وتتراقص أحياناً، ينطلق الفيلم مع فريق عمل تلفزيوني يجري تحقيقاً عن «الربيع العربي»، قبل ان تأخذ الحكاية منحى آخر بعد مقابلة «مجهول» الذي خرج ذات يوم من عام 1981 من منزله ولم يعد. وبدلاً من أن يصبح الرجل في عداد المفقودين، جعلته ورقة رسمية في عداد الموتى... ولكن ماذا لو أراد استعادة حياته وسنواته الضائعة التي جعلته الرقم 404 الى درجة نسي معه اسمه بعدما التصق الرقم به 20 عاماً؟ حاضر غائب 20 عاماً من الانتظار، ستطبع، أيضاً، يوميات أبطال الفيلم اللبناني «وينن؟» (أين هم؟) الذي أنجزه سبعة مخرجين شباب من جامعة سيدة اللويزة (طارق قرقماز، زينة مكي، جاد بيروتي، كريستال اغنيادس، سليم الهبر، ماريا عبدالكريم، وناجي بشارة) عن 6 نساء، لكل واحدة منهن حكاية مع مفقود من مفقودي الحرب اللبنانية، نتعرف إليها على حدة على مدى ستة فصول، قبل ان تجتمع النسوة في الفصل الأخير في اعتصام امام البرلمان اللبناني للمطالبة بمعرفة مصير المفقودين. وسرعان ما يتضح في نهاية الشريط أن الأبطال، الحاضرين الغائبين في كل الحكايات، ليسوا إلا بطلاً واحداً، وأن النسوة يتشاركن حب المفقود نفسه... فهو الابن في الفصل الثاني والزوج في الفصل الثالث والأب في الفصل الرابع والشقيق في الفصل الخامس والحبيب في الفصل السادس... وكأن طيف الرجل الواحد يختصر أطياف 17 ألف مفقود لبناني تركوا وراءهم قلوباً ممزقة لا تعرف طعم النوم او الراحة، ونفوساً غارقة في وحدتها، صوّرها الفيلم ببساطة وشفافية علّ هناك من يسمع نحيب اللوعة ولهفة الانتظار. 6 شخصيات أيضاً ترصدها كاميرا الفيلم المصري «أوضة الفيران» الذي حققه 6 مخرجين شباب (نيرمين سالم، محمد زيدان، محمد الحديدي، مي زايد، هند بكر، وأحمد مجدي مرسي)، اختاروا الإسكندرية شخصية رئيسية في عملهم من خلال حكايات 6 من أهلها، يتشاركون الوحدة ذاتها: فمن «راوية» التي تغرق في اكتئاب مخيف بعد وفاة زوجها، الى «عمرو» الذي ينتابه خوف من عدم الإفصاح عن مشاعره لوالده المريض، الى «داليا» التي تستقبل يوم زفافها بخوف كبير، مروراً بالعجوز الذي يقف على حافة الطريق، والصغيرة التي تحاول اكتشاف عالم الكبار... شخصيات سلبية مستسلمة للكآبة، خانعة أمام مصيرها البائس، تعيش ولا تعيش، في عالم لا يعرف السعادة ولا يطل منه أي بوادر أمل. «الحياة لونها بمبي» ولكن ماذا لو قررت فتاة من العشوائيات أن تحلم بفارس يأتيها على حصان أبيض لينتشلها من واقعها الكئيب ويأخذها الى عالم وردي؟ ماذا لو تجرأت على تحدي الفضيحة انتصاراً للحب؟ هذا ما يحدث في فيلم «فتاة المصنع» مع بطلة محمد خان التي قررت التمرد على واقعها والحلم بالزواج من شاب أعلى منها شأناً، متسلحة بأفلام سعاد حسني الرومانسية وأغانيها التي تسافر بها من واقعها المذري الى حياة بلون «بمبي». ولأن بطلتنا تجرأت على الحلم في بيئة لا مكان فيها للأحلام، كان متوقعاً ألا تفلت من دون عقاب، فكان في انتظارها مصير بائس بدأ بالإشاعات من حول شرفها ولم ينته بمحاولة انتحارها وصولاً الى الرقصة الأخيرة في زفاف حبيبها في تحدٍ يأبى الانكسار. «فتاة المصنع» فيلم عن الحب والهروب الى الزمن الجميل، حاكه محمد خان بإيقاع سلس وسياق متين، لكنه أيضاً عن العشوائيات التي تكسر الأحلام على صخرة الواقع. فيلم ينتزع الأمل من عمق السواد ليشي بالكثير عن النفوس البشرية الحائرة في رحلة الحياة التي غالباً ما تكون شاقة. نفوس حائرة، أيضاً، يصّوب المخرج اللبناني محمود حجيج كاميرته صوبها في فيلم «طالع نازل» الذي يُعري 7 شخصيات لبنانية لا تريد إلا من يسمعها، فتلجأ الى عيادة للأمراض النفسية ليلة رأس السنة بينما المدينة تودع عاماً وتستقبل عاماً جديداً. وإذا شغلت العيادة مساحة كبيرة من الفيلم، فإن مصعد البناية ال «طالع نازل» على حكايات وقصص لا تنتهي لأفراد يعانون مشكلة في التواصل مع الآخر، يشغل مساحة اخرى، تكاد تختصر حال بيروت التي تعيش بإيقاع يجسّده عنوان الفيلم: «طالع نازل». واقع مبتور ترسمه أيضاً كوثر بن هنية في فيلم «شلاط تونس» لناحية علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع من خلال قصة حقيقية شهدتها العاصمة عام 2003 حين اعتدى شاب على 11 امرأة بجرح مؤخراتهنّ ليعرف في ما بعد ب «شلاط تونس». وإذ تتعمد المخرجة ان تحجب الخط الفاصل بين الوثائقي والروائي في الفيلم، فإنها تنجح في تقديم حبكة تتميز بسخرية سوداء بعد ان تعيد تركيب الأحداث في رحلة بحثها عن «الشلاط»، لتفتح الباب واسعاً على عقلية ذكورية تحتقر المرأة. «النساء جبال الشياطين، وعلاقة الذكر بالأنثى مثل علاقة الحمار الوحشي بالمستنقعات». عبارة يرددها أحد وجوه الفيلم، وتكاد تكون المحرك الذي قاد بن هنية لمحاربة جهل هؤلاء بسلاح الصورة. محاولة للخروج السخرية السوداء أيضاً سمة أساسية في فيلم رشيد مشهراوي «ستيريو فلسطين» الذي يصوّر محاولة خروج شابين من مخيم جنين والهجرة الى كندا بعدما قُتلت زوجة الأول (ميلاد) وتحوّل الثاني (سامي) الى أصمّ وأبكم بفعل قذيفة اسرائيلية استهدفت المبنى الذي يقطن فيه ميلاد. وكعادة مشهراوي لا يخلو «ستيريو فلسطين» من معالجة تضع الأصبع على جرح شعب تتجاذبه لامبالاة الخارج وانقسامات الداخل. وإذ يبدو الحل في بداية الفيلم في الهروب من المأساة، فإن النهاية تسدل الستارة على لافتة كبيرة تحمل عبارة محمود درويش الشهيرة: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة». عبارة تأتي هنا وكأنها كناية عما تمتلئ به الأفلام العربية المعروضة في مسابقة «المهر» من إصرار على الاحتفال بالحياة، أو كرد مباشر يستجيب لعبارة ستيف ماكوين في فيلمه المشار إليه. «الميدان» من مصر الى الأوسكار هل ينتزع الفيلم المصري «الميدان» جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي؟ سؤال تردد بقوة بين جمهور «مهرجان دبي» الذي شهد عرض الفيلم قبل يومين، بعدما نجح الفيلم في الوصول الى القائمة القصيرة لترشيحات لجنة أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية الأميركية في سابقة هي الأولى في تاريخ السينما المصرية. ويقيناً ان الفيلم الذي عرض للمرة الأولى بنسخة غير مكتملة في مهرجان «سندانس» السينمائي حيث فاز بجائزة الجمهور، تلتها جائزة أفضل فيلم وثائقي لعام 2013 للرابطة الدولية للأفلام التسجيلية، لن يمرّ مرور الكرام. إذ يتوقع منذ الآن أن يثير الكثير من النقاشات في مصر، خصوصاً انه يصوّب سهامه ضد العسكر و «الإخوان» في آن، بالاتكاء على أرشيف بصري من «الميدان»، لاحق الثورة منذ اندلاع شرارتها الاولى حتى نزول ملايين المصريين للمطالبة بتنحي محمد مرسي. وقد وفقت مخرجة الفيلم المصرية-الأميركية جيهان نجيم باختيار شخصياتها الثلاث: أحمد الشاب الآتي من بيئة فقيرة والذي يحلم بالتغيير، وخالد عبدالله، الممثل (بطل فيلم the kite runner) الذي ترك الولاياتالمتحدة وانضم الى الثوار في معركتهم ضد الطغيان، و «مجدي» العضو في جماعة الإخوان المسلمين. ثلاثة شباب من بيئات وانتماءات سياسية مختلفة، يتشاركون حلماً واحداً ويفترشون ساحة واحدة ضد الطغاة، ولكن ماذا حين تتغير الأحوال، ويسرق «الإخوان» من الشبان ثورتهم؟ وماذا حين تصبح الساحة ساحتين بعد خلع محمد مرسي وسجنه؟ سؤالان قد تكون إجابتهما على لسان أحمد الذي شدّد في نهاية الفيلم على القول: «لا نريد قائداً يحكمنا... نريد ضميراً». يذكر ان الفيلم صنّف كأول فيلم تسجيلي تحصل عليه شركة نيتفليكس التي تقدم خدمة إيجار الأفلام ومشاهدتها من طريق الانترنت.