في كل سنة، ولدى البحث عن حصيلة عام مضى، يصعب العثور على شيء نافر، وطارئ ضمن مشهد سينمائي راكد؛ شحيح من ناحية الكم، ومألوف من ناحية النوع. فيلمان أو ثلاثة أفلام روائية طويلة، في أحسن الأحوال، تنتجها المؤسسة العامة للسينما سنوياً، فضلاً عن عدد من الأفلام القصيرة التي تبدو وكأنها تنتج من باب الواجب، فهي أرقام تتراكم من دون أن تثير جدلاً في مهرجان ما، ومن دون أن تحظى بجائزة معتبرة، مع استثناءات قليلة تثبت القاعدة، ولعل غياب سورية السنة الجارية عن أبرز مهرجان عربي للأفلام التسجيلية والقصيرة مثل الإسماعيلية، يدعم مثل هذا الكلام. وعلى رغم الأحاديث الكثيرة عن مشروع فيلم «الشراع والعاصفة» الذي يعتزم غسان شميط إخراجه، فإن تلك الأحاديث هدأت بعدما تعثر المشروع، أكثر من مرة، لأسباب لها علاقة بالكلفة الانتاجية العالية التي لا تستطيع «المؤسسة» تحملها. وفي غضون ذلك حقق شميط فيلمين تسجيليين هما «المدن المنسية»، و «أماكن وأسرار» الى أن تم التوصل الى تسوية ليبدأ تصوير الفيلم المنتظر في السنة الجديدة. ونجح سمير ذكرى، بدوره، في البدء بتصوير فيلمه الروائي الطويل «حراس الصمت» المقتبس عن رواية لغادة السمان. حدث سوري! وفي ظل هذا التعثر والتسويف، وعدم تسجيل السينما السورية اي نجاح يذكر في مهرجانات سينمائية في العام المنقضي، تبقى سلسلة «الفن السابع» التي تصدرها «المؤسسة» هي النقطة المضيئة التي تروج لثقافة سينمائية مهملة في عالمنا العربي، ناهيك عن أعداد فصلية «الحياة السينمائية». والواقع أن هذه «الفصلية»، وتلك «السلسلة» تريان النور بجهود تكاد تكون «فردية»، ونقصد الجهد الذي يبذله الناقد السينمائي بندر عبدالحميد في الدفاع عن هذين المشروعين الطموحين. مهلاً! ثمة كذلك عدد من الأسابيع السينمائية التي تبرع المؤسسة في تنظيمها وتوزيعها على مدار اشهر السنة عبر الاتكاء على الافلام المتوافرة في مستودعاتها، وهي الافلام نفسها التي تعرض بسخاء في مهرجان دمشق السينمائي الذي يعد انجازاً سنوياً لافتاً للمؤسسة. وفي معزل عن التظاهرات التي رافقت المهرجان في دورته الأخيرة، فإن نحو عشرين فيلماً شاركت في المسابقة الرسمية، فقطف الفيلم الكردي «جبل بلا أشجار» ذهبية المهرجان، بينما نال «عشرون» الإيراني لعبدالرضا كاهاني فضية المهرجان، في حين ذهبت البرونزية الى «كازانيغرا» المغربي لنور الدين الخماري. ولعل الحدث السينمائي الابرز في المهرجان، وخلال السنة المنتهية، هو فيلم «مرة أخرى» للمخرج السوري الشاب جود سعيد (ولد 1980)، ففي حين مر فيلم «بوابة الجنة» لماهر كدو مرور الكرام، بل تعرض لانتقاد واسع، فإن «مرة أخرى» حاز جائزة أفضل فيلم عربي، وكذلك جائزة لجنة التحكيم للأفلام الروائية الطويلة. وعلى رغم ما قيل من ان هذا الاحتفاء جاء بمثابة مجاملة للبلد المضيف، وأن عبداللطيف عبدالحميد هو «عرابه» من الألف الى الياء، فإن الفيلم هو التجربة الإخراجية الأولى لمخرج شاب استطاع أن يتصدى لإشكالية معقدة كالعلاقة السورية - اللبنانية. ووفقاً لذلك، فإن الفيلم، الذي كتب حكايته المخرج نفسه، بدا مبهماً، يعاني خللاً في السرد السينمائي، وتشويشاً في المقولة التي يريد الفيلم طرحها، وهو ما عزاه البعض الى مقص الرقيب الذي كان سخياً في الحذف إزاء موضوع يتمتع بحساسية عالية كالموضوع الذي يناقشه الفيلم الذي حوى جماليات بصرية لا يمكن نكرانها. واللافت ان الفيلم ساهمت في انتاجه «شركة سورية الدولية» الخاصة مناصفة مع «المؤسسة»، وهذه المساهمة لم تكن سوى واحدة من مساهمات عدة برزت ضمن المشهد السينمائي السوري خلال السنة الفائتة، لتبشر، ربما، بتغيير في واقع الانتاج السينمائي الذي نهض به القطاع العام، بمفرده، لسنوات خلت، وقد تؤذن ب «عودة الروح» الى القطاع الخاص الذي لا تستقيم معادلة الانتاج السينمائي من دونه. القطاع الخاص ومغامرة الإنتاج إذاً، سجلت السنة الفائتة تجارب عدة في مجال الانتاج الخاص، ولعل المثال الابرز هو المنتج السوري العتيد نادر الأتاسي الذي حقق حلمه القديم عبر انتاج فيلم «سيلينا» للمخرج حاتم علي، وقام بافتتاح وتحديث صالة سينما دمشق التي يملكها، لتتحول الى صالة «سينما سيتي» التي تعد، الآن، إحدى الصالات الراقية التي تتقيد بشروط عرض سينمائية عالية المستوى، من دون ان ننسى في هذا الإطار ما قدمه المخرج هيثم حقي من خلال شركة «ريل فيلمز» التي يديرها، والتي تتبع مجموعة «أوربت»، فهذه الشركة الخاصة حققت افلاماً عدة بتوقيع مخرجين عرب. وفي المثال السوري كان فيلم «الليل الطويل»، الذي أخرجه حاتم علي أيضاً، هو الأبرز، وقد نال الفيلم جوائز عدة في مهرجانات عالمية، لكنه لم يحظَ بعرض جماهيري في سورية نظراً لخوض الفيلم قضية الاعتقال السياسي. ومع ان الفيلم يتخفف كثيراً من تعقيدات هذه القضية، ليلامس الجانب الوجداني الإنساني فحسب، لكنه بقي في دائرة الشك، ولا نعلم إن كان إسقاطه من فيلوغرافيا المخرج، لدى التعريف به في كاتالوغ مهرجان دمشق بصفته عضواً في لجنة التحكيم، جاء مقصوداً أم مجرد سهو بريء! وفي إطار الشركة الخاصة ذاتها شارف المخرج عبداللطيف عبدالحميد، الذي حظي بعلاقة «استثنائية» مع «المؤسسة»، على الانتهاء من عمليات تصوير فيلمه الروائي الطويل الجديد «مطر أيلول» الذي يجمع، بحسب تصريحات للمخرج، «باقة من قصص الحب، التي تجنح إلى الرومانسية والخيال، بصورة تجعله أقرب إلى مفهوم الواقعية السحرية». وشكّل فوز الفيلم السوري «نصف ميليغرام نيكوتين» للمخرج محمد عبدالعزيز بجوائز عدة في مهرجان (باري) الإيطالي مفاجأة، ولا يقصد، هنا، التقليل من قيمة الفيلم الذي أنتجته شركة «الشرق» السورية الخاصة، بل لأنه نفذ بعيداً من اية ضجة إعلامية، ويكاد لم يسمع به أحد إلا بعد تحقيقه، بل نيله أربع جوائز (إخراج، تصوير، ديكور، نص) في المهرجان المذكور على رغم وجود أفلام من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، فضلاً عن مشاركة فيلمي «شجرة الليمون»، و «فالس مع بشير» اللذين انتزعا جوائز في مهرجات مرموقة. انتصار خارجي أما الانتصار غير السينمائي الذي حققته «المؤسسة» فهو كسب دعوى ضد المخرج السينمائي نبيل المالح الذي اضطر الى دفع غرامة قدرها نحو 50 الف دولار أميركي ترتبت عليه عبر عقود أبرمها مع جهات مختلفة لتوزيع أفلام «المؤسسة» وبيعها في سنوات سابقة. وكانت هذه القضية قد شهدت فصولاً من الاتهامات المتبادلة بين مدير مؤسسة السينما محمد الأحمد وبين المالح. ولئن سوّي الأمر في أروقة المحاكم، فإن القلوب ظلت مفعمة بنزعة «العداء والخصومة». وكان مهرجان دمشق مناسبة للتعبير عن تلك الخصومة، إذ أصدر عدد من السينمائيين، وعلى رأسهم المالح ومحمد ملص وعمر أميرلاي، بيان احتجاج أثناء عقد المهرجان عبروا فيه عن استيائهم من الواقع السينمائي، وشنوا هجوماً عنيفاً على المهرجان وإدارته، الأمر الذي دفع الأحمد، على غير العادة، الى عقد مؤتمر صحافي فور انتهاء المهرجان لتوضيح بعض الملابسات والدفاع عن المهرجان و «المؤسسة». ولا يمكن ان نغفل في هذا الحصاد السينمائي أيام «سينما الواقع» التي ينظمها عروة النيربية وديانا الجيرودي بدعم من شركات ومؤسسات عدة خاصة، وتحولت إلى تقليد سنوي يعقد في شهر آذار (مارس) من كل عام، ليعرض عدداً من الأفلام التسجيلية التي نالت الاستحسان، وقطفت الجوائز في مناسبات سينمائية مختلفة. كذلك لا يمكن تجاهل تلك التحف السينمائية التي يعرضها المركز الثقافي الفرنسي كل يوم خميس في دمشق، وهو عبارة عن نشاط سينمائي دأب على تنظيمه المخرج أسامة محمد الذي يستطيع الفرز، قبل غيره، بين الغث والسمين في عالم الفن السابع.