قبل يومين من توقيع الاتفاق النووي بين مجموعة دول 5+1 وإيران، اضطرت إسرائيل للتراجع عن مواقفها المتصلبّة من واشنطن، وحاولت تقليل الأضرار التي لحقت بها جرّاء الحملة الإعلاميّة المكثّفة ضدّ الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وتعهدت الإخلاص لعلاقتها الخاصة بالولاياتالمتحدة، كما أورد موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» على الإنترنت، بعدما شكك وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان في متانة تلك العلاقة التي وضعتها موضع الاختبار مساعي التوصل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النوويّ. جاء ذلك على خلفية إقرار حكومة بنيامين نتانياهو رسمياً بالفشل في منع الاتفاق، بعدما باتت إسرائيل وحيدة في الحلبة الدولية، لا سيما أن زيارة نتانياهو لروسيا كانت قد فشلت فبل أن تبدأ. وقد أجمع المحللون السياسيون في تل أبيب على أنّ تصرّفات نتانياهو وتصريحاته ما كان لها إلا أن تفعل فعل ازدياد عزلته الدوليّة. بالإضافة إلى ذلك، أكّدوا أن اتخاذه قرار توجيه ضربة عسكريّة إلى البرنامج النووي الإيراني لن يحظى بتأييد من الدول الصديقة، قبل الدول التي تُعتبر في مصاف الأعداء، بالإضافة إلى أنّ كثراً في إسرائيل يُشككون في قدرة القوات العسكرية على القيام بهذه المهمة وحدها، بسبب بُعد إيران الجغرافي، وافتقاد إسرائيل الأسلحة الملائمة، وخسارتها عنصر المفاجأة الذي كان بإمكانه، وفق البروفيسور يحزقيئيل درور، أنْ يُحقق نصرًا إستراتيجيّاً، لافتًا إلى أنّه كان يتحتّم على إسرائيل توجيه الضربة لإيران قبل سنوات، وعدم الانتظار حتى هذه اللحظة أو ما بعدها، ولكنّه استدرك أنّ قرار توجيه ضربة عسكريّة لإيران هو أخطر قرار تاريخي سيُتخذ في إسرائيل منذ إقامتها على الأرض الفلسطينية في العام 1948. «انتحار» بالإضافة إلى العزلة الدولية، أثارت العلاقات المتوترة بين نتانياهو والإدارة الأميركية انتقادات واسعة في إسرائيل، خصوصاً في الأوساط السياسية والعسكرية المهنية، فأميركا ليست مجرد دولة ولا هي أيضاً مجرد حليف، بل هي إحدى أهم ركائز الأمن القومي الإسرائيلي التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويُنظر إلى توتير العلاقة معها على أنه انتحار. ومع ذلك، فإن اليمين في إسرائيل يؤمن بأن بلاده ليست عالة على أميركا، وأنها تقدم لها خدمة كبيرة بوصفها الحارس المضمون للمصالح الأميركية والغربية في المنطقة، ما يمنحها حقوقاً وأوراق ضغط لا يستهان بها. وكانت إسرائيل قد ركزت في ردود فعلها الأولية على اتفاق جنيف، على عدم التزامها هذا الاتفاق، واستعدادها في حالة الضرورة للعمل منفردةً ضد المشروع النووي الإيراني الذي تراه خطراً مباشراً على وجودها. وعلى رغم عدم صدور تهديدات أميركية لإسرائيل بهذا الصدد، تولى وزير الخارجية البريطاني هذه المهمة، عندما حذر إسرائيل صراحة من محاولة تقويض الاتفاق. ومع ذلك، فإن أميركا، على أعلى المستويات، لم تخف انزعاجها من إسرائيل وموقفها وتهديداتها. وكان جون كيري قد استبق الاتفاق بالإعلان أن التخويف الذي يمارسه البعض، ويقصد إسرائيل، لن يرهب أميركا ولن يمنعها من إبرام اتفاق ترى فيه مصلحتها. وعلى الرغم من استمرار نتانياهو ووزرائه بانتقاد واشنطن، ومعها اتفاق جنيف، شرع الموقف الإسرائيلي عموماً وهو يجيد التذبذب دائماً رقصاً على إيقاع طبول المصالح الأمنية والاستراتيجية الخاصة، لا سيما تجاه الحلفاء الموثوقين كالولاياتالمتحدة وسائر دول الغرب، في التعامل مع ما يترتب عليه من نتائج، بطريقة تؤكد الاستنتاج القائل بالتسليم بالاتفاق. وذلك على قاعدة ما أعلنه نتانياهو من أنه اتفق مع أوباما في مكالمتهما الهاتفية على تعزيز التنسيق بينهما أثناء المفاوضات اللاحقة مع إيران، وأنه سيرسل مستشار الأمن القومي الإسرائيلي يوسي كوهين عاجلاً إلى واشنطن. في حين شدد نتانياهو على أن الغاية من المفاوضات اللاحقة مع إيران يجب أن تكون تفكيك قدراتها النووية العسكرية. ومن المعروف أنّ العلاقات الشخصية للرجلين ليست على ما يرام، فبعيداً عما يحكم العلاقات السياسية والأمنية بين دولة عظمى ودولة وظيفية، يرفض أوباما السياسات اليمينية المتطرفة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وما زال يكنّ له العداء منذ الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، حين عمل نتانياهو من دون كلل أو ملل لمصلحة المرشح الجمهوري ميت رومني ضدّ أوباما. وقد وصل الأمر بمحلل الشؤون العسكريّة في صحيفة «يديعوت أحرونوت» إلى القول إنّ الإدارة الأميركيّة غير مهتمة على الإطلاق بما يفعله نتانياهو، لعلمها الكامل بأنّ إسرائيل ستعود زحفًا إلى واشنطن لعقد راية الصلح، لأنّ العلاقات بين الدولتين بمثابة زواج كاثوليكيّ، مشدّدًا على أنّ الطرف الضعيف في المعادلة هو إسرائيل، لأنّها من دون أميركا ستصل إلى العزلة الدوليّة التي تخشى منها، ومن دون واشنطن لن تجد من يستخدم حقّ النقض (الفيتو) لمنع اتخاذ قرارات في مجلس الأمن الدولي لإدانتها. وأشار إلى أنّه لا توجد دولة عظمى في العالم على استعداد لتزويد إسرائيل المعونات الاقتصاديّة والعسكريّة، وفي مقدّمها الأسلحة المتطورّة جدًا مثل طائرات إف 35 (الشبح) التي من المقرر أن يحصل عليها سلاح الجو الإسرائيلي السنة المقبلة، علماً بأنّ هذه الطائرة، الأكثر تطورًا، يستعملها سلاح الجو الأميركي فقط. في المقابل، سعى الأميركيون قبل توقيع الاتفاق لترطيب الأجواء مع حكومة نتانياهو، فقد حاول السفير الأميركي في إسرائيل دان شابيرو تهدئة المخاوف الإسرائيلية حيال الاتفاق، مؤكداً ان واشنطن لن تسمح أبداً لطهران بحيازة سلاح نووي. وقال لمؤتمر المنظمات اليهودية الأميركية الذي عُقد في القدس: «في هذه القضية الحاسمة، فإن الولاياتالمتحدة وإسرائيل تتشاركان أجندة متطابقة». وأكد أن أوباما «أوضح تماما انه لن يسمح لإيران بحيازة سلاح نووي أبداً، وأنه مستعد لاستخدام كل عناصر قوتنا القومية لضمان نجاحنا». ولأن إسرائيل لا تستطيع معاندة الإجماع الدولي مطولاً، خصوصاً بالنسبة إلى قضية بحجم النووي الإيراني، ومحاولات سحب الذرائع والفتائل المتفجرة من أيدي الإيرانيين، عادت حكومة نتانياهو لتنزل عن الشجرة العالية التي صعدت إليها، من دون تقدير العواقب التي يمكن أن تجر العالم إليها إذا استمرت في معانداتها المتكررة، وإصرارها على التهديد باستعمال القوة، «القوة التي أصبحت وراءنا» بحسب تعبيرات القوى العظمى، فقد أتيح للخيار السلمي التفاوضي أن يقطع الطريق على توترات ومكابدات ومعاندات كادت تضع العالم على حافة حرب غير مسبوقة، في ظل التهديد بضربات عسكرية لمنشآت نووية موزعة على أكثر من منطقة داخل إيران. وهكذا أعاد التذبذب الإسرائيلي واصطفافه مجدداً إلى جانب الحلفاء الدوليين، انتظام الموقف من النووي الإيراني، لالتزام الهدوء على الأقل لستة أشهر مقبلة. ولكن ماذا بعد ذلك؟ ذلك هو السؤال الذي ينتظر الإجابة في ضوء إعادة التفاوض على ما تبقى من الاتفاق. * كاتب فلسطيني