كان عليه أن ينصت قبل سنوات لنصيحة صديقه الأديب إدمون عمران المليح ويتوقف عن الرسم. ثقته بعمق رؤية صديقه دفعته إلى اتخاذ قرار مصيري طبع حياته بصبغته أكثر من عشر سنوات. لقد تفرغ الرسام المغربي حسان بورقية (1956) يومها للكتابة والترجمة. غير أن عينه الثالثة كانت تنظر إلى الرسم بشغف لم يكن الأدب ليشبعه. لم يكن سأمه من الأدب هو الذي دفعه إلى ممارسة الرسم مرة أخرى. لا يزال هناك من الأدب الشيء الكثير الذي يظهر في رسومه وهو يحاول جاهداً أن يقلّل من أثر الأشكال، أن يثني الأصباغ عن القيام باستعراضاتها التي تسمح بالإغواء، أن يضرب بعصا المعنى على طبل الجمال ليستعيد عافيته في منطقة أخرى. الرسام الذي رأيته في عمان (ايلول/ سبتمبر 2014) كان حريصاً على أن يمحو أكثر من أن يضيف، أن يخفي أكثر من أن يظهر هو ذاته رجل الأدب الزاهد بالإنشاء والثرثرة والإفاضة. لديه ما ينقب عنه، في سطح اللوحة وفي الفضاء المحيط بها. ينظر بإنصات ليعين محدّثه على تقليب صفحات السرد، لكن بنعومة آسرة. كما لو أنه يقول «لا يكفي» وهو لا يكتفي بما يزيله من السطح أو يغطيه. هل يسلّي يديه حين يرسم أم أن يديه كانتا تنعمان عليه برخاء اسطوري وهما ترسمان؟ في الحالين فإن الرسام يضعنا أمام تعبير لا يزال ناقصاً رغم أن حامله وهي اللوحة يبدو متقناً في اكتماله. لا شيء يحذف منها ولا شيء يضاف إليها. إنه يتبع خطى فكرته عن العالم. هناك ما نراه مكتملاً رغم أن معانيه لا تزال ناقصة. أعتقد أن بورقية يبحث عن نوع من المتلقي يكون شريكاً له في تفكيك أسرار اللغز. لغز الرسم الذي يحلق فوق متاهة لامتناهية من المشاهد المصيرية. وهي مشاهد قد لا تصلح للوصف. هل كان عليه أن يخترق الوصف لكي يصل إلى المنطقة التي يكون اللاشيء هو محصلتها؟ ربما فعل ذلك في وقت مبكر من حياته رساماً، غير أنه اليوم لا يعوّل كثيراً على ذاكرته البصرية. ففعل الرسم هو ما يهدي خطواته بين صخب المواد المحلية التي اختارها ليكون للوحته مزاج مغربي. سيكون بورقية سعيداً بالحديث عن مزاجه المغربي وهو يهب حدائقه المعلقة، وهو عنوان أحد معارضه نوعاً من الأرق، في انتظار نوم لم يكن يفكر بأزرقه. هذا رسام لا تفيض لوحاته ألواناً. يقتضب لكي يشهد على فقره المادي. هناك غلالة صوفية تمشي به في اتجاه هدفه. أن يكون ما يفعله مناسباً لما يفكر فيه. الرسم باعتباره نوعاً من الإجهاز على الروح. هناك في رسوم بورقية خزائن مغلقة من العاطفة، تظل عاكفة على ذاتها في انتظار لحظة الانفجار. هذا رسام لا يسمح لعاطفته بأن تسيل على سطوح لوحاته. سلوك عقلاني يحبط كل ما يمكن أن يشغل الخيال بشغبه. تبدو الرسوم كما لو أنها المعقل الأخير لمعادلة، طرفاها النظر والخوف منه. ما بين «نرى لنفهم» و»نرى لكي نستفهم» يحسم بورقية قراره منحازاً إلى السؤال عن جدوى ومصير ما يفعل. لن تطيح به فكرته عما كانه فتستعمله في مجال التعبير عما استهلكه من الأدب. لقد فكر طويلاً في مهنته أديباً حتى اهتدى إلى شغبه رساماً، لذلك لا يمكنه الآن سوى أن يرتجل صورة الشخص الذي ينأى بنفسه عن ضلالة التعبير عما لم يعشه قبل البدء بفعل الرسم. بورقية يرتكب خطيئته بالرسم لكي يحاربها بالرسم أيضاً. تمتزج السخرية المهذبة بشعور عميق بالأسى. وهو ما خطط له بورقية من أجل أن يكون المتلقي مرآة له. رسومه التي لا تكف عن التلويح بألغازها انما هي نوع من الرقى السحرية التي يستهلك النظر إليها الكثير من طاقتنا الروحية. وهو ما شكل مصدر عناده لكي يكون رساماً.