قام الدكتور صباح جمال الدين أخيراً بعمل مشكور، إذ جمع مقالات قد تكون معروفة للبعض ولكن غير منتشرة، لرائد علم الاجتماع العربي المعاصر، علي الوردي، وأصدره في عنوان: «علي الوردي: نقد كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين» (بيروت: دار الوراق، 2014). وقد تحدث الكتاب في أهم مطالعاته عن قيام طه حسين عام 1925، بإطلاق صيحته المدوية في نقد الشعر الجاهلي، وعدّه منحولاً أو مكذوباً. فقامت قيامة الأدباء عليه. ويقول الوردي أنه حين درس نظرية طه حسين هذه وجدها لا تستحق مثل هذه الضجة، بل رآها نظرية واهية، ولكن الضجة هي التي أسبغت عليها تلك الأهمية . خلاصة نظرية طه حسين أن الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا ليس جاهلياً، إنما هو منحول اختلقه الرواة في عصر متأخر. واستند المؤلف في ذلك إلى مقارنة الشعر الجاهلي بما جاء في القرآن الكريم من وصف لحياة الجاهلية أو انتقاد لها. يقول طه حسين: «إننا حين ندرس القرآن نجده يمثل أهل زمانه تمثيلاً مبايناً لتمثيل الشعر لهم، ونحن مخّيرون إذن بين أن نكذّب القرآن أو نكّذب الشعر الجاهلي. ولما كان القرآن صادقاً، فلا بد أن يكون الشعر هو الكاذب أو المكذوب». ويقارن طه حسين بين الحياة التي يمثلها القرآن الكريم وتلك التي يمثلها الشعر الجاهلي فيجد بينهما الفروق الآتية: 1- يمثل القرآن لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ويعلنوا في سبيلها الحرب التي لا تبقي ولا تذر. أما الشعر الجاهلي فيمثل لنا حياة غامضة جافة من الشعور الديني والعاطفة الدينية المسيطرة على النفس وعلى الحياة العملية. 2- والقرآن يمثل حياة عقلية قوية، وقدرة على الجدال والخصام ومحاورة في مسائل فلسفية كالبعث والخلق والمعجزة وما أشبه. أما الشعر الجاهلي فهو يمثل الجهل والغباوة والغلظة والخشونة. 3- والقرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، وكانوا متأثرين بما في تلك الأمم من حضارة. أما الشعر الجاهلي فيمثل العرب كأنهم أمة تعيش منعزلة في صحرائها، لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي. 4- والقرآن يحدثنا عن انقسام المجتمع العربي إلى طبقات، منها طبقة الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، ومنها طبقة الفقراء المعدمين الذين ليس لهم من الثروة ما يمكنهم أن يقاوموا أولئك المرابين أو يستغنوا عنهم. والقرآن يذكر كذلك ما كان في العرب من بخل وطمع وظلم وبغي، وأكل أموال اليتامى ونكث العهود. أما الشعر الجاهلي فلا يذكر من ذلك كله شيئاً. إنما هو يمثل العرب أجواداً كراماً مهينين للأموال مسرفين بازدرائها. 5- والقرآن يذكر البحر والسفن واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من شؤون الحياة خارج الصحراء. أما الشعر الجاهلي فلا يعرف غير حياة البادية. وإذا عرض لحياة المدن فهو يمسها مساً رقيقاً ولا يتغلغل في أعماقها. ينتقد الوردي، نظرية طه حسين وكذا نظريات نقاده الذين أتوا بالأمثلة من الشعر الجاهلي للتدليل بها على أن هذا الشعر بحث في جميع الأمور التي أشار إليها القرآن، وهو إذن يمثل الحياة الجاهلية أصدق تمثيل. بالنسبة للوردي، نسي هؤلاء، كما نسي الدكتور حسين، شيئاً واحداً كان الجدير بهم أن لا ينسوه. وبهذا ضاعت جهودهم وجهود دكتورهم هباءً. لقد نسوا أن القرآن يمثل الحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية الشعر الجاهلي، وأن كليهما كان صحيحاً في تمثيله على رغم تفاوتهما في التصوير. فالقرآن الكريم يمثل ثورة اجتماعية ودينية ضد المترفين الذين كانوا يسيطرون على المجتمع المكيّ. إنه كان، بعبارة أخرى، يحارب قريشاً وينتقد وثنيتها ورياءها واستعلاءها وبغيها ونكثها بالعهود. أما الشعر الجاهلي فكان غير مكترث بمكة وبما يجري فيها. إنه لا يرى مكة إلّا في موسم الحج، وهو يراها آنذاك حاشدة بالناس وقد امتلأت بالثريد الذي كانت قريش تقدمه لهم وفيراً. كان الشعر الجاهلي في معظمه يمثل الحياة البدوية التي تسود القبائل خارج مكة. وليس عجيباً بعد هذا أن نجده مختلفاً عن القرآن في تصوير الحياة إنه بوادٍ والقرآن بوادٍ آخر. وشتان ما بين الواديين. والمعروف عن قريش أنها كانت أقل حظاً في نظم الشعر من القبائل العربية الأخرى. ولعلها كانت تتخذ من رعاية الشعر ما يعوضها عن نظمه، كما هو شأن الأغنياء المترفين في كل زمان ومكان. فكان الشعراء يقصدون قريشاً لينشدوا بين يديها قصائدهم ويستلموا منها الجوائز، ولم يكن يهمهم عندذاك من أين تأتي قريش بالمال في سبيل ذلك. ولو أنهم كانوا من أهل مكة ويشهدون ما يجري فيها من ظلم وربا وبغي، لكان شعرهم من نمط آخر في أرجح الظن. لقد كان المجتمع المكّي في أيام الجاهلية يختلف عن المجتمع القبلي الموجود في الصحراء. ويصحّ القول إنه كان يجمع مساوئ البداوة ومساوئ الحضارة معاً. فلقد كان يحتفظ بالعصبية القبلية بأبشع صورها، ولكنه من الجهة الأخرى كان يحتوي على مساوئ غير موجودة في مجتمع البداوة. فكان به التمايز الطبقي والفخار بالمال والبخل والاستغلال. وهذا وصل التفسّخ الاجتماعي فيه إلى أبعد الحدود. وحين نقرأ القرآن الكريم، ثم نقرأ الشعر الجاهلي نحسّ بالفرق الكبير بين مجتمع مكة ومجتمع البداوة. إلا أن مؤرخي الأدب العربي لم يلتفتوا إلى هذه الناحية في دراستهم للشعر الجاهلي. إنهم بالأحرى لم يفرّقوا بين قريش والقبائل الأخرى من الناحية الاجتماعية. والمظنون أن لقريش ضلعاً في إشاعة هذا الرأي المغلوط بين المؤرخين. فعندما سيطرت قريش صار دأبها أن تلقي في أذهان الناس بأنها قبيلة النبي وذوي قرباه، وأن الإسلام جاء لتسييد قريش على العرب، ولتسييد العرب من بعد ذلك على سائر الأقوام. ومعنى هذا أن قريشاً لم تكن بأشد جاهلية من بقية القبائل، أو لعلها كانت أفضل من غيرها في الشرف والفضل والسؤدد. والملاحظ أن المسلمين الأوائل، من المهاجرين والأنصار، كانوا ينظرون إلى قريش بغير هذه النظرة. من هنا، جاء قول علي بن أبي طالب بأن قريشاً من نبط كوثى. يضيف الوردي ملاحظة أنه ظهرت في مكة في العصر الجاهلي عوامل حضرية عدة جعلت الشيخ القرشي يختلف عن الشيخ البدوي اختلافاً بيّناً. وقد وصف زهير بن أبي سلمى الشيخ البدوي قائلاً: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم ومعنى هذا أن الشيخ البدوي لا يستطيع أن يبخل بماله على أبناء قبيلته أو يتعالى عليهم أو يستغل جهودهم. إنه بينهم متبوع لا مسيطر. وإذا ظهرت عليه صفات مكروهة تركه قومه والتفوا حول شيخ آخر منافس له. ولا ننكر هنا أثر الوراثة في تكوين المشيخة البدوية. ولكن الوراثة وحدها لا تكفي في جعل الرجل شيخاً إذا لم تدعمها الصفات المحمودة فيه. ولا بد من أن يكون إزاء كل شيخ، منافس أو منافسون من إخوته أو عمومته أو أبناء عمّه، وهم واقفون له بالمرصاد. وكثيراً ما يحلّ أحدهم محله إذا استطاع أن يقنع القبيلة بأنه أكرم أو أشجع أو أحلم من شيخهم القديم. وهذا هو الذي جعل الشيخ البدوي ديموقراطياً في رئاسة قبيلته، إذ هو لا يحكم إلا بأمرهم، ولا يسترضي سواهم. إن السمعة الحسنة تنفع في البادية أكثر ما ينفع المال. فالمال يأتي ويذهب، أما السمعة فتبقى يتحدث عنها الناس، وينال بها صاحبها المكان الرفيع. أما في مكة، فالزعامة تقوم على أساس آخر. فقد ظهر في مكة من العوامل الحضرية ما يجعل الرجل قادراً على أن يكون وجيهاً على رغم صفاته المذمومة. وتلك العوامل هي: 1- العامل الديني: وقد رأينا في ما سبق كيف كانت مكة موئل الأوثان ومركز العبادة الوثنية في بلاد العرب، فكان فيها السدنة ورجال الدين ومن إليهم من حراس الأوثان والقوّامين عليها. هذا النوع من الدين يسبغ على المختصّين به مكانة مقدّسة ويجعل من الصعب على الناس الاستهانة بهم أو الاعتراض عليهم مهما فعلوا. 2- العامل الاقتصادي: وهنا نجد الزعيم القرشي غنياً مترفاً يملك العبيد والجواري. فكان يرسل العبيد في مهماته التجارية، ويخصص الجواري للبغاء. ويجني من وراء ذلك المال الوفير. 3- العامل النقدي: لقد عرفت مكة استعمال النقود من الذهب والفضة. واشتهر الوجيه المكي بأنه يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها على المعوزين كما يفعل الشيخ البدوي. كان المال في البادية يطلب لكي ينفق في سبيل السمعة. أما في مكة فكان المال المكنوز من مقاييس السمعة والمنزلة الاجتماعية. 4- عامل اللباس والمظهر الخارجي: وهذا عامل لا يعرفه البدو على منوال ما يعرفه أهل مكة. وليس من النادر أن نرى الشيخ البدوي يشبه غيره من أبناء قبيلته في اللباس والمظهر. أما في مكة فكان للثياب والمطايا والمواكب أثر كبير في إعلاء مكانة الرجل. وكان أغنياء مكّة يتصلون بالأمم المتمدّنة من طريق التجارة فيقتبسون منها أسباب الترف والتمايز المظهري. 5- عامل الدار والجوار: كان أهل مكّة يسكنون الدور المشيّدة بالحجر. ولعلهم كانوا يتنافسون في عمران دورهم وزخرفتها، كما يفعل أهل هذا الزمان، قليلاً أو كثيراً. والمعروف عن وجهاء مكّة أنهم كانوا يتمايزون في ما بينهم في درجة قرب دورهم من بيت الله الحرام. وكلّما كان دار أحدهم أقرب إلى الكعبة كان أعلى مكانة وأعظم شرفاً. والملاحظ في هذا الصدد أن الجبال تحيط بمكّة من كل جانب. وليس فيها من الأرض المنبسطة إلا بقعة صغيرة هي البقعة المحيطة بالكعبة. وكانت تسمى في الجاهلية «البطحاء». وكان أشراف قريش يتنافسون في بناء دورهم فيها. ومن هنا انقسمت قريش الى طبقتين: قريش البطحاء وقريش الظواهر. وكانوا إذا أرادوا مدح شريف منهم قالوا عنه إنه «سيد البطحاء». الخلاصة أن المجتمع المكّي كان يختلف عن المجتمع البدوي من نواحٍ شتى. وهذا هو سبب ما نرى من فرق كبير بين القرآن والشعر في تصوير الحياة الجاهلية. فلقد نزل القرآن ثائراً على ذلك التفسخ والتمايز الطبقي الذي كان سائداً في مكّة. بينما كان الشعر مشغولاً بمفاخراته ومنابذاته القبلية، غير شاعر بما كانت عليه الحال في مكّة. ويعرب الوردي، في النهاية، عن تعجبه لعدم التفات الأدباء، أو عميدهم الدكتور طه حسين، إلى هذه النواحي المهمة عند دراستهم الأدب الجاهلي، إذ انهمكوا بعلوم البيان والمعاني والبديع فانشغلوا بها عن الإصغاء إلى ما يقوله علم الاجتماع في هذا الشأن.