في محاولة لربط الحاضر مع الماضي من جهة قلما تنبه لها من يدرسون تاريخنا الاجتماعي والثقافي والأدبي واللغوي في الجزيرة العربية، يركز الدكتور سعد العبدالله الصويان في كتابه "الصحراء العربية.. ثقافتها وشعرها عبر العصور.. قراءة أنثروبولوجية"، الصادر عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت"، على المصادر الشفهية وموروثات الثقافة التقليدية التي يرى أن الباحثين اعتادوا في محاولتهم ربط الحاضر مع الماضي أن يركزوا على الثقافة الرسمية التي وصلتنا مدونة في مصادر مكتوبة دون الالتفات إلى ذلك الموروث الشفهي، مدللاً على ذلك بتطبيق معايير الثقافة المكتوبة والأدب المكتوب واللغة المكتوبة على ما وصلنا من الثقافة الجاهلية كنصوص مكتوبة، متناسين في الوقت نفسه أنها في الأصل ثقافة شعبية أنتجتها ذهنيات أمية، وتعاملنا معها كما لو كانت هي ذاتها نتاجاً نخبوياً لمجرد أن الذين حفظوا لنا هذا الموروث الجاهلي هم نخبة من العلماء، ومن ثم فلم نفرق منهجياً بين الأدب الذي أنتجه العصر الجاهلي وبين الأدب الذي أنتجه العصر العباسي مثلاً، بعدما تكرست الكتابة كآلية لإنتاج الأدب وبثه ونشره، كما أننا – يقول المؤلف – نغفل دور العلماء لاحقاً وجهودهم في تقعيد وتنسيق اللغة الجاهلية والأدب الجاهلي ونتعامل مع هذه القواعد لا على أنها فرضيات ونظريات أنتجتها عقليات حضرية في أوج ازدهار الحضارة العباسية، وإنما نتعامل معها كما لو كانت معايير يتقيد بها الجاهليون عن وعي وإدراك حينما يتحدثون أو حينما ينظمون شعرهم، ويضيف المؤلف أن "الجاهليين لم يقيدوا أنفسهم بقواعد سيبويه النحوية ولا ببحور الخليل الشعرية، وإنما كانوا يستجيبون لسليقتهم وطبعهم دون وعي بالقواعد التي تحكم إنتاجهم اللغوي والأدبي، تماماً مثلما أن القبائل في تحالفاتها ومناقلات فروعها من قبيلة لأخرى لم تتقيد بما دونه النسابون عن أنساب القبائل الجاهلية". ويذهب الباحث إلى أن دراسة شعر البادية يكمل الصورة المبتورة عن الأدب الجاهلي التي تنقلها لنا دواوين الشعر المكتوبة، وأننا حينما نعمق فهمنا للشعر الجاهلي من خلال فهمنا لوريثه الشرعي، أي الشعر النبطي، فإننا أيضاً نعمق فهمنا لثقافة العصر الجاهلي، مؤكداً أن الشعر في الصحراء العربية خلال عصورها الشفهية، منذ العصر الجاهلي وحتى عهد قريب، يتداخل تداخلاً عضوياً مع مختلف شؤون الحياة، وأن التداخل بين مكونات الثقافة الشفهية هو انعكاس للبنية الداخلية للذاكرة الشفهية والذهنية الشفهية، وأن أنساق الثقافة الشفهية تميل نحو التداخل والاندماج بحيث إن كلاً منها يفسر الآخر ويعزز وجوده، لذا - يقول المؤلف – "فإنه من الناحية المنهجية لا يجوز لنا أن نطبق عليها معايير الثقافات التحريرية التي تميل أنساقها نحو التمايز والانقسام، من تجزئة الشريط الصوتي المتصل ومفصلته إلى حروف مستقلة أحدها عن الآخر إلى تجزئة الذرة وتقسيمها إلى نيترونات وبروتونات. ويطمح المؤلف إلى إسهام هذا العمل (وهو جهد بحثي متميز جاء في 819 صفحة من القطع الكبير) في تصحيح الصورة المشوهة التي تحملها النخب العربية في أذهانهم عن التنظيم القبلي وطبيعة الحياة البدوية وقيم الثقافة الصحراوية، وعن حقيقة العلاقة بين البدو والحضر في الجزيرة العربية، مشيراً إلى أنه يتعامل في هذا الكتاب مع الشعر الجاهلي والشعر النبطي على أنهما يمثلان إرثاً أدبياً واحداً متصلاً يعبّر عن حس جمالي مشترك وعن رؤية كونية مشتركة، ويعكس استمرارية ثقافية ممتدة لم تنقطع عراها من عصور الجاهلية حتى عصورنا المتأخرة التي ما زال البعض منا – كما يقول المؤلف – "يتذكر بعض ملامحها". ويوضح المؤلف أن المنهج التزامني الذي تبناه في هذا العمل في التعامل مع الشعر الجاهلي والشعر النبطي على أنهما موروث شعري واحد، يأتي ليتكامل مع المنهج التاريخي التتابعي الذي سبق أن بدأه في كتابه "الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص" (2000م)، والذي تتبع فيه بالتفصيل مراحل انتقال الشعر في بادية الجزيرة العربية من النمط الكلاسيكي إلى النمط النبطي، وكيف تحولت لغته من الفصحى إلى العامية، مؤكداً أن العمل الذي نحن بصدده يهدف إلى تأكيد أن العلاقة بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي لا تنحصر فقط في الجوانب اللغوية والأدبية، التي سبق أن فصل القول فيها في العمل المشار إليه، وإنما تتعدى ذلك لتشمل كونهما نتاج بيئة طبيعية واحدة، وانعكاساً لثقافة صحراوية رانت على الجزيرة العربية وامتدت من عصر ما قبل الإسلام حتى بداية القرن العشرين. وباختصار شديد، يقول المؤلف: إن هذا الكتاب "عبارة عن رصد وتحليل للتاريخ الشفهي في الجزيرة العربية بأبعاده اللغوية والأدبية والاجتماعية والثقافية (بالمعنى الأنثروبولوجي للثقافة) وعلاقات القبائل ببعضها البعض، وعلاقات الحاضرة بالبادية والدولة بالقبيلة عبر العصور، ومن ثم محاولة ربط الحاضر بالماضي والشعر النبطي بالشعر الجاهلي، ولكن وفق منهجية فكرية محايدة لا تتبنى بالضرورة الخط الرسمي والسائد، وليس ذلك من باب الاعتراض على الخط الرسمي والسائد، وإنما رغبة في الموضوعية والحيادية والفهم الصحيح لهذه القضايا الشائكة والملتبسة، وبحثاً عن الحقيقة العلمية المجردة، بعيداً عن توجهات أو مواقف مسبقة". ويعيد الدكتور الصويان التأكيد على أن هذا الكتاب ليس فيه تحدٍ سافر لأي سلطة أو مؤسسة من أي نوع، موضحاً أنه فقط "إعادة نظر في بعض (المسلمات) و(الثوابت) من خلال رصد إثنوغرافي وتحليل أنثروبولوجي واجتماعي لحركة الأدب الشفهي ممثلاً بالشعر النبطي (البدوي)، والتاريخ الشفهي (السوالف) كما يحكيها الرواة الشفهيون من أبناء القبائل والبدو، ولفت النظر إلى شرائح مهمشة وصفحات منسية من تاريخنا الاجتماعي الممتد لعدة قرون من خلال العرض والتحليل والنقد"، مشدداً على أنه لا يعني بالمسلمات والثوابت أموراً تمس السلطة أو الدين أو الجنس أو أياً من المحرمات أو المحظورات، وإنما قضايا تتعلق بمركبات الثقافة وبنية المجتمع ومفاهيم القبيلة والدولة والبداوة والحضارة والشعبي والرسمي والعامي والفصيح، ومحاولة تفكيك هذه القضايا والمفاهيم الثقافية والاجتماعية الشائكة والمتشابكة وما يتعلق بها من ملابسات وسوء فهم.