بالنسبة إلى ترومان كابوت، الكاتب الأميركي صاحب «إفطار عند تيفاني» و «بدم بارد»، تعتبر رواية «العجوز والبحر» لإرنست همنغواي «أسوأ رواية» قرأها خلال سنوات طويلة. ومع هذا يمكن القول إن كابوت، طليق اللسان عادة، والذي لا يبدو أن ثمة كتّاباً أميركيين كثراً يعجبونه، كان من كبار المعجبين بروايات همنغواي الأخرى. مهما يكتب فإن قلة من الناس كانت تأخذ آراء ترومان كابوت على محمل الجد، في الوقت الذي وقفت فيه كثرة منهم عند ذلك العمل المتأخر من أعمال إرنست همنغواي مأخوذة مبهورة، إن لم يكن بالموضوع، فبأسلوب الكتابة على الأقل. بالتفاصيل. بالرمزية الكامنة في عمل ذكّر أهل الأدب ب «موبي ديك». ولعل هذا الإعجاب العام والكبير ب «العجوز والبحر» هو الذي دفع كثراً من الكتاب في مشارق الأرض ومغاربها، بما في ذلك بعض كتابنا العرب، إلى محاكاة «العجوز والبحر» وأحيانا «استلهام الكثير من مشاهدها». غير أن هذا لا يهم طبعاً، طالما أن الكتاب المقلدين عرفوا كيف يكيفون الموضوع والتفاصيل مع بيئاتهم المحلية وهم يقسمون لمن يحب أن يصدقهم بأنهم إنما اقتبسوا أعمالهم، ليس من «العجوز والبحر» بل من حكايات حدثت في ديارهم. و «الصدفة» هي التي جعلتها شبيهة برواية إرنست همنغواي. والحقيقة أنه لو صح هذا الكلام الأخير، لكان في هذا خير تحية لأدب الكاتب الأميركي الكبير، من حيث إنه عرف في روايته تلك أن يعبر عما حدث في أماكن عدة من العالم، لأناس متشابهين في ظروف متشابهة وأحياناً بلغة تكاد تكون هي نفسها وعبر تفاصيل لا تتغير. إنها عالمية الأدب والتعبير الفني أليس كذلك؟ مهما يكن من أمر، لا بد أن نفترض هنا بأن إرنست همنغواي كان - وربما لا يزال إلى الآن وإلى حد كبير بعد مرور أكثر من نصف القرن على موته انتحاراً - واحداً من كبار أدباء أميركا الشمالية، بالمعنى العالمي الكوني للكلمة وليس هذا فقط لأنه جعل أنحاء عدة من العالم مسرحاً لرواياته (فرنسا، إسبانيا، مجاهل أفريقيا... إلخ)، بل كذلك لأن رواياته، مع أنها اتّسمت بحساسية وخصوصية أميركيتين مرتفعتين، حملت في الوقت نفسه حساسية كونية لا شك فيها. ومن هنا قُرئ في شتى أنحاء العالم وفي شتى اللغات، ليس ككاتب يعبّر عن أميركا - كما حال فولكنر مثلاً - بل ككاتب يعبر عن الإنسانية جمعاء. وما روايته «العجوز والبحر» سوى خير مثال على هذا، حتى وإن كان من المفيد ألا نأخذ في الاعتبار هنا مسألة «الكونية» التي أسبغها مقلدوه - وسارقوه أحياناً - على عمله من أجل تغطية ما اقترفوه في حقه وفي حق روايته. مع ذلك، نعرف أن «العجوز والبحر» واحدة من أعمال إرنست همنغواي القليلة التي تدور أحداثها في أميركا نفسها. قلنا أحداثها؟ ربما.. حتى وإن كان واضحاً أن ليس ثمة أحداث حقيقية في «العجوز والبحر»... وليس فيها شخصيات كثيرة. بطلها واحد هو الصياد العجوز سانتياغو، ومسرحها مختصر: مركب سانتياغو والبحر العريض. وموضوعها ضيق: رغبة سانتياغو في اصطياد سمكة كبيرة. من هنا، لم يكن غريباً أن تبدأ الرواية على النحو الآتي: «كان يا ما كان... كان هناك رجل عجوز، يتجول وحيداً في مركبه يصطاد في مياه غولف - ستريم». في هذه العبارات القصيرة قال همنغواي منذ البداية كل شيء. وحدد موضوعه. حدد المتوقع من موضوعه، أما ما يلي ذلك، فإنما كان وصفاً بلغة سلسة تنتمي إلى كل الأزمان، لأمور تحدث دائماً في مثل هذا النوع من الحبكات والمواقف. إن سانتياغو لا يتوقف عن أخذ مركبه والتوجه به إلى عرض البحر حيث يجدد محاولته الأبدية لاصطياد سمكة كبيرة. لا يردعه الفشل ولا ينهكه أن يحاول ويحاول من دون جدوى. تمضي عليه أسابيع وأسابيع من دون أن تلوح في الماء أي سمكة ولو لتلتهم الطعم وتهرب. إنه وحيد في عرض البحر، يكاد يكون بلا ذاكرة... ولا يهتم أي اهتمام لمرور الزمن... فالزمن ليس شيئاً بالنسبة إليه... كذلك، فإن سانتياغو يمضي حياته بلا تأمل وبلا أية فلسفة. والأكثر من هذا أنه يعيش من دون أن يجري أيّ حوار إلا مع نفسه. إنه هناك لكي يصطاد السمكة وسيصطادها من دون ريب. ستأتي ذات يوم، لتكحل أيام العجوز بفرح استثنائي... هذا كلّ شيء وهذا هو جوهر الحكاية ومبرر الوجود بالتالي. ولكن، متى تصل هذه السمكة؟ هذا هو السؤال الأساس الذي يشغل البال فيما القارئ يسأم والصياد العجوز لا يسأم. واللغة بدورها لا تسأم. وهنا تكمن واحدة من ضروب عبقرية همنغواي، إذ ها هو يمعن في وصف المواقف والتفاصيل... التي تتكرر هي نفسها من صفحة إلى أخرى، ولكن في لغة تبدو في كل مرة جديدة مغرية للقارئ. ما يتمكن في نهاية الأمر من إبقاء القارئ مشدود العينين إلى صفحات الرواية. حتى اللحظة التي يتنفس فيها، هو والصياد واللغة معاً، الصعداء. إذ ها هي السمكة تصل بعد أيام أواسابيع. تصل عند ظهر يوم كان سانتياغو قصد فيه البحر عند الفجر. وما إن لاحت حتى يدرك صاحبنا أن الصراع قد بدأ. فالسمكة لامست المركب، كبيرة مهيبة... لكنها بدلاً من أن تستسلم، تبدأ ساحبة المركب نحو القاع. لا يجزع سانتياغو ولا يتردد، بل يصرخ بغريمته: «أيتها السمكة إنني أحبك كثيراً وأحترمك، لكنني بالتأكيد سأنال منك». ويمر يومان من الصراع العنيف بين سانتياغو والسمكة. وهنا تبدو لغة همنغواي استثنائية في وصف ذلك الصراع، لا سيما في وصف الإعجاب الهائل الذي بات يعتري سانتياغو تجاه تلك السمكة، حتى وإن كان لم يرها بوضوح حتى الآن. أخيراً، عند صباح اليوم الثالث تظهر السمكة بجلالها ولونها الفضي اللامع وخطوطها الحمر الفوسفورية، ويشهق سانتياغو أمام جمالها، هو الذي يدرك الآن أن ظهورها المباغت، إنما هو الفرصة التي تلوح له لاصطيادها وتحقيق حلمه: حلم السيطرة على حيوان يبدو الآن بالنسبة إليه خرافياً، مثل تلك الأسود الهائلة التي طالما زارته سابقاً في أحلامه. وبالفعل يكون لسانتياغو في نهاية الأمر ما يريد: يتمكن من السيطرة على السمكة التي يسيل دمها بفعل الصراع العنيف الذي خاضته. فما الذي يحدث الآن؟ يحدث ما لم يكن متوقعاً بالنسبة إلى صيادنا: ها هي دماء السمكة تجتذب إلى المكان أعداداً من أسماك القرش التي كانت تسرح بعيداً. فإذا بأسماك القرش تقترب باحثة عن هذه الفريسة غير المتوقعة. وهنا يكون على سانتياغو أن يخوض صراعاً جديداً. لكنه هذه المرة صراع غير متكافئ على الإطلاق، حيث إنه، ومهما حاول الدفاع عما يتبقى من سمكته الفاتنة، فلن يتمكن أبداً من إنقاذها من براثن أسماك القرش التي حين تبارح المكان أخيرا، لا تترك له منها سوى بقايا غير مجدية. ومع هذا، أوليس من حق سانتياغو أن يشعر بأنه قد انتصر على سمكته، أياً كان مصيرها؟ إذاً، ها هو الآن يعود بمركبه إلى قريته، وإلى أهله وأصحابه الصيادين وقد شعر بالانتصار، لمجرد أنه رفض أن ينهزم. وكان في هذا خبر مثير لجماعته وخبر محفّز لهم. من الواضح أن في هذه النهاية كل غنى هذه الرواية التي نظر إليها النقاد دائماً بصفتها رواية رمزية، أكثر منها واقعية. وكذلك نظروا إليها على أنها كتبت بلغة ساحرة ذات نبض ومبتكرة. ولم يكن ذلك، في عام 1952 الذي صدرت فيه الرواية، جديداً على إرنست همنغواي (1898 - 1961) الذي كان عرف كصحافي وكاتب ومغامر ارتبط اسمه بكوبا التي عاش فيها، وبإسبانيا التي كتب عنها وعن حربها الأهلية وصراع الثيران فيها، وأنتج طوال حياته أعمالاً خالدة مثل «لمن تقرع الأجراس؟» و «الشمس تشرق أيضاً»... ومات كما أشرنا منتحراً بطلقة من بندقيته في أوج مجده وعظمته. [email protected]