أغلب الظن أن مؤتمر جنيف سيعقد في موعده، وسيشارك فيه الجميع، بمن فيهم الذين يعلنون اليوم رفضهم المشاركة (باستثناء الجماعات التكفيرية المتطرفة). الائتلاف الوطني السوري مرّر قضية المشاركة خلال مهزلة الصفعة التاريخية، والمجلس الوطني السوري الذي كان أعلن موقفه الرافض للمشاركة في المفاوضات، من دون أن يقدم بديلاً عنها، لا يزال موقفه غامضاً. وكتائب الجيش السوري الحر التي انتقلت في معظمها إلى مواقع القوى الإسلامية المتطرفة، بسبب البحث عن السلاح والتمويل مصرّة على عدم المشاركة حتى اليوم. في المقابل، هيئة التنسيق الوطني موافقة على الذهاب إلى المفاوضات من دون أي قيد أو شرط. بل إن رئيس الهيئة قال إن أسماء وفدها لمؤتمر «جنيف 2» باتت معروفة، لكن المشكلة ما زالت تتمثل بوفد الائتلاف السوري المعارض. لا فرق بين من أعلن موافقته ومن أعلن رفضه المشاركة، فالمرجح أن الجميع سيذهب في ربع الساعة الأخير، وحسناً يفعلون، فلا أحد يملك خياراً آخر سوى المشاركة. ولا أحد يريد أن يبقى خارج الطاولة، لأن الزمن سيمر سريعاً وسينسى تضحيات من ضحّى وتقدمة من قدم ومبادرة من بادر، ولا يبقى في النهاية سوى ما يتم التوقيع عليه بين الأطراف. من جهته، بينما يستمر النظام بمحاصرته المدنيين وقتله الأطفال قصفاً وقنصاً وجوعاً، ومأثرته في إعادة أمراض منقرضة مثل شلل الأطفال إلى سورية، فإنه يكرر كل يوم تقريباً أنه سيذهب إلى جنيف ولكن من دون شروط مسبقة. وهو لا يستثني من هذه الشروط وقف القتل والتجويع والاعتقال والتعذيب والتهجير ونهب أملاك المواطنين. ومع ذلك يفرض هو نفسه شروطاً مسبقاً حين يرفض قبلياً انتقال السلطة. وهو إلى ذلك يحدد شروط الطرف الآخر التي يطلق عليها المعارضة الوطنية، وتتمثل في رأيه على الأغلب بقدري جميل وعلي حيدر وبعض الأطراف في هيئة التنسيق، ما يعني أنه في صدد محاورة ذاته النرجسية من خلال مهزلة خلق معارضين من طراز قدري جميل. وفي الوقت نفسه تتقدم قواته وشبيحته بدعم مباشر من لواء أبو الفضل العباس العراقي ومقاتلي «حزب الله» اللبناني في القرى والبلدات القريبة من دمشق والتي كانت تحت قبضة المعارضة. وتقول تقارير واردة من دمشق إن أصوات القصف ما عادت تسمع في المدينة كما كان الحال قبل أشهر. وفي الشمال تنقسم البلاد «المحررة» ما بين دولة الإسلام في العراق والشام (داعش) القوية وجبهة النصرة التي تسنتجد بزعيم القاعدة أيمن الظواهري، الذي لبى النداء وأفتى بحل داعش وتقوية النصرة. كلا الطرفين، على أية حال، ومعهما معظم فصائل الجيش الحر التي تتحول تدريجاً الى تبني خطاب إسلامي متطرف (بسبب تخاذل العالم عن التواصل الصحيح معها، وبسبب الأجندات الإقليمية وسوء أداء المعارضة السياسية التي أثبتت أنها أشبه بفريق كرة قدم في حارة دمشقية وهو يواجه فريق مانشستر يونايتد) لا تريد المشاركة في جنيف، لأن مصلحتها في استمرار شلال الدم الذي تعيش منه وتمد نفوذها بثبات. ثمة لاعب أساسي لا نراه هنا ولا نسمع به كثيراً: المجتمع المدني. في الوقت الذي كانت المعارضة منشغلة فيه بانقساماتها وخلافاتها وتغيير ولاءاتها الدولية والإقليمية، كان المجتمع المدني يعمل بنشاط من أجل إغاثة اللاجئين ومعالجة الجرحى والدفاع عن المعتقلين ورعاية أسرهم. وكان يعمل على تأسيس لجان ومجالس محلية، وينشط مع الإعلام المحلي والخارجي، وينشر جرائد مطبوعة ومواقع إلكترونية وإذاعات ومحطات تلفزة. ليست المعارضة ولا المقاتلون من عمل على إدماج الشباب والمرأة في الثورة السورية، بل المجتمع المدني. والمجتمع المدني هو الذي شدد – من دون أن يسمع له أحد - على سلمية الثورة ومدنيتها وعلى المواطنة كمعيار أساس للعلاقة بين السوريين. وهو الذي عمل على تحديد معايير العمل في اليوم التالي لسقوط النظام وبداية المرحلة الانتقالية إلى الديموقراطية، فوضع تصوراته لحكم القانون والعدالة الانتقالية وإصلاح القطاع الأمني وإصلاح النظم الانتخابية وكتابة الدستور وإصلاح القطاع الاقتصادي والعلاقات المجتمعية. أين هو هذا المجتمع المدني من مفاوضات «جنيف 2»؟ إن أحداً لم يقم باستشارته حول تصوره لشكل الحوار أو المفاوضات المفترض: لا النظام ولا المعارضة ولا الأخضر الإبراهيمي ولا أميركا وروسيا والقوى الإقليمية المؤثرة. كما ان أحداً لم يفكر بدعوة هذا المجتمع لحضور جلسات المفاوضات في جنيف. الجميع كان يبحث عن شركاء سياسيين يوافقون بأي شكل من الأشكال على الحضور بغض الطرف عن إمكانية نجاح المؤتمر أو فشله. أما الأطراف الاساسية، النظام والمعارضة، فتؤكد حضورها أو ترفضه بناء على موقفها من الطرف الآخر فقط، من دون أن تؤكد مثلاً أجندة المفاوضات ودور القوى الخارجية فيها وإلى أي حد سيكون الحوار سورياً - سورياً أو أميركياً - روسياً. إن نجاح المفاوضات رهن بعوامل كثيرة، منها الإرادة الدولية وإمكانية المجتمع الدولي الضغط على نظام الأسد لوقف حمام الدم الذي يُغرق البلاد به، ومنها قناعة النظام والمعارضة بأن الأمور قد وصلت إلى مكان شديد التعقيد وأن تنازلاً حقيقياً يجب أن يقدم لإنقاذ ما تبقى من البلاد والبدء في بناء البلد من جديد، ومنها أيضاً قناعة المعارضة بأن البحث في الرؤى المستقبلية لسورية الجديدة مهم بقدر أهمية خلافاتها حول الواقع والمناصب وتقاسم الحصص. ولكنّ ثمة عاملاً لا يقل أبداً أهمية عن كل ما سبق، وهو مشاركة المجتمع المدني في المفاوضات نفسها. إن المجتمع المدني هو الضمانة الحقيقية لتنفيذ الاتفاقات التي يصل إليها المتفاوضون، ومشاركته أو وجوده بالتالي هو أمر حيوي يضمن على الأقل أن الأجندة السورية هي التي توضع على الطاولة وأن المتفاوضين يبحثون في المصلحة السورية أولاً وليس في مصلحة أي طرف آخر. وإذا كان من الصعب مشاركة المجتمع المدني في العملية التفاوضية نفسها، فأضعف الإيمان أن يكون موجوداً كطرف مراقب، ضامن لنزاهة المفاوضات وسورنتها. من دون المجتمع المدني، قد يعقد «جنيف 2»، ولكن لن تكون لنتائجه صدقية ولا مستقبل حقيقي. * كاتب سوري