الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية صار ضمّاً أكثر منه احتلالاً. وجود مُدمّج من سياسات العزل المكاني والسيطرة والضمّ وفرض الوقائع على الأرض ورسم حدود مستقبلية لإسرائيل في غور الأردن. من هنا، أهمية إعادة قراءة الواقع ب «لغة الضم»، لا بلغة الاحتلال، حتى يستقيم التفكير في سبل مواجهة الحالة. القيادات المتنفّذة في الجانب الفلسطيني على اختلاف تياراتها، ما زالت تقرأ الواقع على أنه احتلال واستيطان عابر في واقع متغيّر، بينما الأمور تعدّت منذ زمن هذه المرحلة وصار الوجود الإسرائيلي بصيغته الحالية دمجاً من أشكال متعددة للسيطرة هي في جوهرها ضمّ للضفة وسياسات إدامة السيطرة عليها في شكل مباشر أو غير مباشر. أنْ ترسم إسرائيل الحدود شرق الضفة الغربية لا يعني سوى أن الضفة الغربية جزءٌ من السيادة الإسرائيلية الكاملة أو الجزئية، المباشرة أو بالوكالة. هذه القراءة يفرضها المنحى الإسرائيلي الذي لم يعد خجولاً بخياره. والقيادات الإسرائيلية تعبّر عنه مرة بالحديث عن استحالة تسوية الصراع ووجوب إدارته، ومرة بالحديث عن «سلام اقتصادي»، ومرة ثالثة عن «غياب قائد فلسطيني يستطيع إنهاء الصراع». كلها تسميات لواقع زاحف صار أكثر ثباتاً من مجرّد كونه احتلالاً أو استيطاناً قابلاً للتفكيك. صحيح أن في النُخب الإسرائيلية مَن لا يزال يتحدث عن الدولتين وعن إمكانية ذلك من خلال تعديلات على خطوط حزيران (يونيو) 1967. هؤلاء ثلاثة أنواع: أولاً: أسرى مفاعيل قرار التقسيم وأماني المرحلة السابقة. هم أيضاً لا يقرأون مجتمعهم ولا تحولاته إلا وفق أمانيهم. ومنها رفضهم التاريخي حلولاً غير الفصل بين الشعبين، ومنها أيضاً أنهم لا يستطيعون رؤية دولة بغالبية يهودية ضئيلة مع احتمال التحول إلى أقلية بين البحر والنهر. ثانياً: أناس في الهامش اعتقدوا بكل جوارحهم بأن لا بدّ من إحقاق الفلسطينيين حقهم من خلال ترجمة حق تقرير المصير إلى دولة في جانب إسرائيل، ولا يزالون على هذا الحُلم على رغم ذهابه مع الريح. ثالثاً: أولئك الذين يُنشِئون خطاب الدولتين مسايرة للضغط الوافد على إسرائيل ويتصرفون بتكريس سيادتها من البحر إلى النهر مثل رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ومُعظم ائتلاف حكومته. هذه هي صورة الوضع التي تستدعي لغة سياسية جديدة وخيارات استراتيجية جديدة فلسطينياً (وإسرائيلياً). التطرف في الموقف من إسرائيل الرسمية لا يحلّ المشكلة ولا الالتصاق بمشاريع قديمة مثل دولتين لشعبين أو غيرها مبنية على أساس الفصل بين الشعبين. لا مجال للفصل بينهما كما هما منتشران على الأرض بين البحر والنهر. ولا مجال لتقسيم الأرض على أساسٍ معدّلٍ للخط الأخضر المُتخيّل إلا تخيّلاً. من هنا، اقتراحي على الرئيس الفلسطيني أن يذهب إلى البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) ويقول للإسرائيليين الحقيقة التي لم يقلها بعد. حقيقة أن لا مجال لتقسيم الأرض وأن من الضروري في إطار أي شكل للمصالحة الحديث عن تقسيم السيادة على الأرض لا الأرض ذاتها. عليه أن يقول إن المسألتين اليهودية والفلسطينية اندغمتا على نحو لا يُمكن بعد الآن الفصل بينهما إلا نظرياً، وإن الحل هو بإدارة هذا الاندغام وترتيبه ترتيباً تاريخياً بين البحر والنهر. عليه أن يقول إن الفلسطينيين الذين راهنوا ردحاً على حلّ الدولتين يُدركون تماماً أنه بات وراءهم، وأنه مستحيل، وأن المراوحة فيه مداورة ومناورة ومضيعة للوقت والدم والموارد والفُرص. عليه أن يقول إن الخيار الاستراتيجي الجديد للفلسطينيين هو الخروج نهائياً من مسارات الفصل بين الشعبين وفتح مسارات العيش المشترك بينهما، في إطار مصالحة تاريخية تُنهي الصراع وتؤسس لمصالحة إسرائيلية - عربية شاملة. عليه أن يقول للإسرائيليين صراحةً، وفي صرح «ديموقراطيتهم»، إن الخيار من الآن فصاعداً هو الدولة الثنائية القومية بكل ما تعنيه من شراكات في الموارد والسيادة والوقت والمكان. على أبو مازن أن يقول صراحة إن من الأفضل للفلسطينيين والإسرائيليين أن يشتقوا سياساتهم من هذا الخيار ومن شكل المصالحة المأمولة التي تحفظ حقوق الشعبين، وليس من الروايتين التاريخيتين اللتين أنشآها وعلقا في تيههما حتى التهلكة. إن الحلّ هو في الاتفاق على شكل المشاركة الممكنة لا الفصل غير الممكن. الذهاب إلى الكنيست يكتسب معنى تاريخياً فقط في حال قال أبو مازن هذه الكلمات وليس غيرها. وإلا فلا يذهب إلى أي مكان!