يتنامى اليوم في جميع أنحاء المنطقة العربية توافق في الآراء أن الشعوب العربية تواجه تحولاً جديداً في علاقتها مع العالم الطبيعي. فإذا ما شكلت السنوات السبعون الماضية عصر النفط في المنطقة العربية، فإن السنوات المقبلة بلا شك سوف يشكلها إلى حد أكبر بكثير مدى نجاحنا في الاستفادة من أحد أهم الموارد الطبيعية الأخرى: المياه. يطلق هذا الأسبوع المكتب الإقليمي للدول العربية التابع لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي (UNDP) تقريراً جديداً حول مستقبل المياه في المنطقة العربية بعنوان «حوكمة المياه في المنطقة العربية: بين تأمين العجز وضمان المستقبل». وتتلخص أطروحته الرئيسية في أن المستقبل ستحدده قدرة الدول العربية على إدخال تحسينات جذرية في طريقة إدارتها للموارد المائية. خلال العقود الأخيرة، ساعدت ثروة النفط والغاز على تحقيق قدرٍ كبيرٍ من التحديث شمل تحسناً غير مسبوق في مؤشرات التنمية البشرية، ولكن المحافظة على استدامة ما أحرزناه من تقدمٍ يتطلب منا معالجة قضية المياه بذات القدر من الاهتمام والتوقير الذي أوليناه لموارد الطاقة لدينا – بل وربما بقدرٍ أكبر. وكما يؤكد تقريرنا، فقد يكون لدى المنطقة العربية أكبر مخزون من النفط في العالم، ولكن لديها في الوقت ذاته أدنى مستويات توافر المياه. ويؤكد التقرير أن التحديات المائية التي تواجه المنطقة العربية هي جزء لا يتجزأ من مجموعة أوسع بكثير من القضايا ذات الأهمية المحورية في حاضرنا اليوم، من انخفاض الإنتاجية الزراعية، مروراً ببطالة الشباب وحتى بعض ما تشهده المنطقة من اضطرابات مدنية، إذ يرتبط معظم ما تواجهه المنطقة العربية اليوم من ديناميات صعبة بقضية المياه بشكل أو بآخر. وإن كانت قضية المياه تشكل تحدياً حقيقياً في جميع المجتمعات حول العالم، إلا أنها في المنطقة العربية تكتسب أهمية حاسمة يحس الجميع بعمق أثرها. الأرقام والإحصاءات جديرة بالتأمل: فسبعة من البلدان العشرة الأكثر معاناةً من ندرة المياه في العالم تقع في المنطقة العربية، ونصيب المواطن العادي عالمياً من المياه العذبة المتجددة يعادل حوالي ستة عشر ضعف ما يتمتع به المواطن العربي - أي أن نصيب المواطن العربي لا يزيد على ستة في المئة مما يتمتع به نظيره عالمياً، كما أن ثلثي مياه الدول العربية تأتي من أنهار تنبع من خارج المنطقة. لقد وصل الموقف في المنطقة العربية في الواقع إلى حدود الأزمة الحادة. فلقد نفدت المياه العذبة المتجددة بالفعل في بعض الدول العربية بينما يتوقع أن تقترب بلدان أخرى من مستوى الصفر خلال العقود القادمة. ولكن العجز المائي لا يروي سوى جزء من القصة. فكما يوضح تقريرنا، والذي أعدته مجموعة بارزة من العلماء والعاملين العرب في مجال المياه، أن المأساة الأكبر تكمن في التعامل مع هذا المورد الثمين بمناهج تفتقر إلى رؤية مستقبلية واعية وتخطيط سليم: فنجد أن موارد المياه الجوفية في العديد من الدول العربية تُستَنزَف بكميات تتجاوز معدلات تجددها طبيعياً، كما تُسجَل أعلى معدلات استهلاك السكان للمياه في الدول العربية الأكثر فقراً من حيث توافر الموارد المائية. والنتيجة هي أن مستويات المياه لدينا، والتي هي بالأساس منخفضة نظراً لجفاف مناخنا، تتسارع مستويات انخفاضها بسبب ما نتخذه من قرارات بشأن استخدامها، كأفراد ومجتمعات. وتفاقم العوامل الديموغرافية من صعوبة هذا التحدي. فسكان المنطقة العربية تضاعف عددهم ثلاث مرات من 128 مليون نسمة في عام 1970 إلى أكثر من 360 مليوناً اليوم. وتشير توقعات الأممالمتحدة أن عدد سكان المنطقة قد يتزايد إلى 634 مليون نسمة بحلول عام 2050، أي ما يقارب الضعف مرة أخرى. والأهم من ذلك هو أن ثلاثة من كل أربعة أشخاص في المنطقة العربية سوف يعيشون في المدن بحلول عام 2050 في حين أن ما يقارب نصف سكان المنطقة يعيشون اليوم في المناطق الريفية. كذلك يؤثر تغير المناخ على قطاع المياه سلباً، بما ينعكس في زيادة تواتر مواسم الجفاف والفيضانات التي غالباً ما تفوق قدرة استيعاب شبكات المياه الوطنية والمحلية، وهو الأمر الذي يجب أخذه في الاعتبار في السياسات والتخطيط. اليوم صار التصدي لتحدي ندرة المياه بمقاربات شاملةٍ ومتكاملةٍ أمراً عاجلاً ومُلِّحاً. والعالم العربي غني بالعلماء والمسؤولين ورجال الأعمال وممثلي المجتمع المدني الذين يعملون جاهدين على ابتكار وتنفيذ العديد من الحلول اللازمة للتخفيف من أزمة المياه، ووضع أُسسٍ استراتيجيةٍ لاستخدام المياه على نحو أكثر إنصافاً وفعاليةً واستدامةً. ولكن ما نفتقده في المنطقة العربية هو المزيج الناجع من الإرادة السياسية التي تضع قضية المياه على رأس أولوياتها، والقدرة المؤسسية التي تضمن استخداماً أكثر فعاليةً لموارد المياه. ويؤكد التقرير أن مفتاح باب المستقبل للمياه في المنطقة العربية إنما يكمن في إحداث تحولٍ جذري في سبل إدارة موارد المياه، أو ما يمكن أن نسميه «حوكمة المياه». وهذا يعني أن معالجة أزمة المياه الحالية تتطلب تعزيز القدرات التقنية والمؤسسات الوطنية وتطوير آليات لزيادة الشفافية والمساءلة في الخدمات العامة للمياه. كما أنه يتطلب تمويلاً إضافياً – وقد أظهر تقرير حديث للبنك الإسلامي للتنمية أن الدول العربية تحتاج إلى استثمار 200 بليون دولار في البنية التحتية في السنوات القادمة من أجل تلبية الطلب المتزايد على المياه. ويتطلب تحقيق التقدم في مواجهة أزمة المياه تبني مقاربات متكاملة تتناول العلاقة بين المياه من جهة، والصحة، والتعليم، والتخفيف من حدة الفقر، وحماية البيئة، وخلق فرص العمل، والأمن الغذائي، وتأمين الطاقة، من جهة أخرى. كما يتطلب أيضا مزيداً من الاهتمام والالتزام السياسي حتى في وسط المناخ السياسي المضطرب الذي يسود المنطقة في الوقت الراهن ويفرض عليها العديد من التحديات. وذلك يتطلب زيادة التعاون بين دول المنطقة من جهة، ومع الدول المجاورة من جهة أخرى بحيث يتم تقاسم المياه وفقاً لاحتياجات كل بلد بما يحقق صالح الجميع. لهذا السبب يعمل برنامج الأممالمتحدة الإنمائي في ثماني عشرة دولة عربية لإحراز تقدم نحو تحسين إدارة المياه من خلال عمله في مجالات تقاسم المعرفة، وتطوير القدرات وربط أصحاب المصلحة بالموارد اللازمة، من أجل تأمين مستقبلٍ مائيٍ أفضل، كجزء من نشاطه الأوسع نطاقاً والساعي نحو دعم التنمية البشرية المستدامة في جميع أنحاء المنطقة العربية. في العديد من البلدان ساهمت برامجنا بالفعل في تحقيق نتائج ملموسة، ولكن لا تزال الحاجة ماسّةً للمزيد من العمل الدؤوب. وفي هذا الصدد، يظل المكتب الإقليمي للدول العربية ببرنامج الأممالمتحدة الإنمائي على استعداد لمضاعفة الجهود. إن العمل من أجل تحسين إدارة الموارد المائية لا يمكن فصله عن التحديات التي تواجهها المنطقة العربية حالياً على نطاق واسع في مجال التحول نحو الحكم الديموقراطي. فلا تزال أصوات الشعوب تتردد أصداؤها في جميع أنحاء المنطقة العربية مطالبة بالعدالة والإنصاف، وبزيادة المساءلة في ما يتعلق باستخدام الموارد العامة، وبمستقبل أكثر إشراقاً لأطفالهم ومجتمعاتهم، وبلدانهم والمنطقة بأسرها. تتعدد مكونات وديناميات هذا التحول وترتبط ببعضها البعض بشكل وثيق، ويبقى تحسين إدارة الموارد المائية مكوِّناً ضرورياً إذا ما أرادت المنطقة العربية تحقيق تطلعاتها الحالية كانت أم المستقبلية. لقد حان الوقت لأن يضع كافة المعنيين في المنطقة العربية إدارة المياه على رأس أولوياتهم - فالتركيز على النفط وحده لم يعد كافياً. * المديرة المساعدة لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، ومديرة المكتب الإقليمي للدول العربية.