ترى الروائية سهام مرضي أن قيمة الألم ليست في المعاناة، بل في الرفض، وتختار «امرأة من أسفل طبقات المجتمع وعياً ووجوداً وفاعلية» لتكون هي بطلة روايتها الجديدة «خلف العالم»، الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم - بيروت. إن رواية «كابوسية» وقاسية للقارئ والحدث الرئيس يدور حول امرأة تموت خلف جدار صلب، ولا أحد في العالم يشعر بها. ومسكونة بالهم الإنساني، في هذا الإطار المأسوي تقول الرواية: «إن المظلوم جزء من إرث الظالم، والضحية هي التي صنعت المجرم في النهاية، والكثرة الضعيفة هي التي يتسلق عليها البطل، أناس مثله يحبون ويحلمون ويتنفسون، وحده الإنسان الحقيقي يسمع صراخهم المكتوم تحت جهورية خطاب من سحقوهم، ويقرأون حكاياتهم خلف أسطر وشعارات القتلة والمجرمين والظلمة، وإن الذين يكتبون التاريخ ويكررون الكذبات لتصير مع الوقت حقائق، قد صنعوا بهؤلاء قممهم التي صعدوا عليها ونعقوا بأول فضيلة». علامتان في الرواية تفرضان نفسيهما بقوة على القارئ سواء في لغتها الشعرية أم بنيتها وحركة السرد. وكتبت مرضي في أول الرواية: «قرأت مرة لإيزابيل رأياً حول اختيارها للأبطال في أعمالها تقول فيه: بصراحة الناس الطيبين الذين لهم رؤى نمطية لا يصنعون شخصيات جذابة تصلح للرواية، هم فقط يصلحون لكي يكونوا أزواجاً سابقين»، ما يجعلنا أمام كشف لتأسيس عملها هذا، وتضيف صاحبة رواية «مع سبق الإصرار والترصد» في مقدمتها «وأنا شعرت بمرارة وثقل وتحدي هذه العبارة حين اخترت (نادية) من بين أولئك الطيبين الذين تقصدهم، ومن بين تلك الحشود المتشابهة والباهتة..». تكشف الرواية عن نزعة واقعية موضوعية في تحليل شخصية المرأة في المجتمع كقضية إنسانية، فبحسب الرواية «كانت تشعر وهي تتحرك في غرفتها أنها تجر خلفها آلاف النساء الساكتات، يرتدين ثوباً واحداً ويبكين ويقطِّعن أيديهن، ولم تكن لتقودهن إلى أي مكان بل كانت تجلس وتنتظر، فهي لا تعرف أي طريق، والطرق لا تنادي أحداً، ولا تسحب القاعدين، وكان هذا يناسبها، ويناسب فكرتها عن الصبر والقناعة». يلاحظ تميز الكاتبة بأسلوب شعري سهل وعميق في الوقت ذاته ويحفز القارئ، إذ انعكس هذا الأسلوب على أعمالها السردية، وفي «خلف العالم» لم تكن «نادية» بذلك الغموض والتمويه، إنما كانت تثير الخوف والحذر تجاه التفكك، وكانت تحدق في الباب الحديدي الضخم الذي وقف أمامها بتصميم قاتل، كأنَّه يراكم خلفه حياتها التي لا تعرف عنها شيئاً بعد، فامتد وتطاول واتسع مثلما يضرب بجذوره بين الأرض والسماء، بينها وبين الأمل «إن مجتمعاً تتعفّن فيه نساؤه خلف القيود والضعف والقهر لن يكون رجاله سوى رجيع الجنس البشري، ولن يعرفوا الشجاعة ولا الرجولة، وسيكون طبيعياً أن يتمرغوا لقرون وعثاء الاستبداد والقمع، من دون أن يخطر لهم الرفض أو تعز عليهم نفوسهم أو يرفعوا رقابهم ليروا السماء»، وتواصل الرواية: «إن الذي يربي مسخاً ليخيف به الناس ويقمعهم، لا يعرف أن صيرورة الحياة بالضرورة تجعله في يومٍ ما الفريسة المتبقية الأخيرة لسد جوعه، وذلك يحدث حين تصير الشعوب مسخاً ضخماً، حفظ مشية جلاده، وصوته ومواعظه، وأساليبه، ومكائده، وكهنوته، وحجمه، لكنه هذه المرة يثور مدفوعا بالقهر والغضب لا طمعاً في السيادة، وهنا تكون النهاية المدمرة للجميع، الكارثة البشرية الهوجاء، والدم الذي يهرق دمه». من هنا نجد أن الرواية تصور الناحية السيكولوجية والأخلاقية والاجتماعية للمرأة والرجل، من دون أن تخوض في فلسفات ميتافيزيقية، بل تقدم الواقع كما هو بحتاً ومفرطاً في الوضوح. ولا تحمل الكثير من الاقتباسات داخلها، مما يدل على أن الروائية بذلت جهداً لكتابتها وتنطلق من مخزونها الفلسفي الخاص، وفي مواقع تزخر بالمباشرة والصدام مثل: «إن وعي الحرية لا يحتاج إلى فهم ولا فلسفة ولا تنوير، حين تكون العصا هي لسان المستبد الوحيد، وحين يسجن الجميع ويقتل الجميع ويظلم ويفتقر ويغرق في الجهل الجميع، ستكون حرية متدافعة ومسعورة كارتداد السيل الذي يفتت حتى الحجر، تلك التي سيكون متقدموها حطبها ونارها في ذات الوقت..». رواية «خلف العالم» تتحول في فصولها الأخيرة إلى هوس بالموت، وتشدنا إلى نهايتها في لغة متماسكة نحو هدفها. الرواية فيها الكثير من الحقائق والخيال أيضاً، ولا تخلو من طرح الأسئلة، وهذه الرواية هي الثالثة للكاتبة مرضي، بعد روايتي «مع سبق الإصرار والترصد» و«حين رحلت»، وحضرت في معرض الشارقة الدولي للكتاب، وتأتي في 100 صفحة من القطع المتوسط. * صحافي من أسرة «الحياة».