كان من شأن ظهور تنظيم «داعش» في العراق وسورية وإعلانه دولة الخلافة في المنطقة التي يسيطر عليها، أن يضيف بعداً جديداً لمشكلة التطرف الإسلامي والإرهاب القائمة منذ فترة طويلة في المملكة المتحدة. ويسود قلق حول مشاركة الشبان البريطانيين المسلمين المباشرة مع انضمامهم إلى تنظيم «داعش» في سورية والعراق، وحول مدى تأثّر بعض الشبّان المسلمين البريطانيين بالتشدد الذي يروّج له «داعش» في وسائل التواصل الاجتماعي، معلناً عن مكاسبه ومجتذباً مجنّدين لخدمة قضيته. وقد حضّ «داعش» أتباعه على تنفيذ هجمات في أي مكان وبأي طريقة ممكنة. وكانت الشرطة حذّرت، ومعها جهاز الأمن البريطاني «إم. إي. 5» كبارَ الوزراء البريطانيين من اتّساع نطاق النشاط الإرهابي داخل المملكة المتحدة، حتّى بات وقوع هجوم إرهابي محتّماً. ويأتي هذا في أعقاب زيادة مستوى الإرهاب في المملكة المتحدة في نهاية آب (أغسطس) الماضي الذي أصبح «خطيراً» بسبب التهديد الذي يمثّله تنظيم «داعش». ويُقدَّر عدد المسلمين البريطانيين الذين ذهبوا إلى سورية للقتال في صفوف «داعش» وجماعات إسلامية أخرى بما يتراوح بين 500 و600 شخص. ويُعتقد أن نصفهم تقريباً عاد إلى المملكة المتحدة. ولكن مقابل عودة هؤلاء إلى الوطن، يسافر آخرون إلى سورية. وتمت مصادرة جوازات سفر بعض البريطانيين الذين يُعتبرون متطرفين إسلاميين، لمنعهم من السفر إلى سورية أو أي بلد آخر. واستخدمت وزيرة الداخلية تيريزا ماي «الامتياز الملكي» لمصادرة 23 جواز سفر في الأشهر الاثني عشر الماضية المنتهية في آب 2014. إلا أنّ السلطات الحكومية وجدت نفسها في موقف محرج عندما اتّضح في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري أن أحد أشهر أنصار «داعش» في المملكة المتحدة، أبو رميسة، فرّ مع عائلته من المملكة المتحدة بعد 24 ساعة من صدور أمر من المحكمة يقضي بأن يسلّم جواز سفره كشرط كفالة، مع الإشارة إلى أنّه لم يسلّم جواز سفره ويُعتقد أنّه في سورية حاليّاً، في المنطقة التي يسيطر عليها «داعش». وكان أبو رميسة (وهو هندوسي اعتنق الإسلام، واسمه الأصلي سيدهارتا دهار) اعتُقل في 25 أيلول (سبتمبر) مع ثمانية رجال آخرين بينهم أنجم شودري الذائع الصيت. وقد تولّى شودري قيادة حركة «المهاجرين» بمساعدة عمر بكري محمد السوري اللبناني المعتقل حالياً في بيروت، والذي كان قيادياً في الحركة، قبل أن يتمّ حظرها في عام 2005، لكنه لا يزال يؤثّر من بُعد في بعض الشبان المسلمين. وقد شارك أفراد من محيط شودري في عدد من المؤامرات الإرهابية على مر السنين، إلا أنّه على رغم إدلائه بتصريحات تحريضية داعمة للإرهاب على نحو مستمرّ واعتقاله مرات عدّة، لا يزال حرّاً طليقاً. وقال السير برنارد هوغانهوي، رئيس شرطة «اسكوتلاند يارد»، ومفوض شرطة لندن أخيراً إنّ ما لا يقلّ عن خمسة بريطانيين يسافرون أسبوعيّاً إلى العراق وسورية للانضمام إلى «داعش». وأضاف هوغانهوي أنه، حتى الآن، اعتُقل 218 شخصاً بجرم ارتكاب أعمال إرهابية، في زيادة بحوالى 70 في المئة عن الاعتقالات التي تمّ تنفيذها منذ ثلاث سنوات. وهو يؤكّد قائلاً: «إنّ سبب هذه الزيادة في معدل الاعتقالات يعود بمعظمه إلى الأعمال الإرهابية والمؤامرات والتخطيطات المرتبطة بسورية، وأعتقد أنّ هذه النزعة ستستمرّ». ومن المعروف أن حوالى 30 جهادياً بريطانياً وقعوا حتّى الآن ضحية القتال في سورية والعراق. ومن المرجح أن يكون الرقم الصحيح أعلى من ذلك. وإضافة إلى الشبان الذين يذهبون للقتال في سورية والعراق، غالباً ما تسافر المراهقات والشابات المسلمات البريطانيات ليتزوّجن بمقاتلين جهاديين. وبسبب الخطر المتزايد الناجم عن الإرهاب، تمّ تشديد الإجراءات الأمنية خلال احتفالات العام الحالي لمناسبة «أحد الذكرى» السنوية، في 9 تشرين الثاني الماضي، وبالتحديد خلال عرض عسكري وضعت خلاله الملكة، شأنها شأن سياسيين آخرين، أكاليلَ الزهور على ضريح الجنود ضحايا الحرب في قصر وايت هول، قرب البرلمان. وقبل «أحد الذكرى» بثلاثة أيّام، اعتُقل أربعة شبان مسلمين في غرب لندن ومدينة هاي ويكومب. وأكدت تقارير صحافية أنّهم كانوا يخططون لشنّ هجوم يوم الأحد لاغتيال الملكة. وفي مؤامرة مزعومة أخرى، وُجّهت تهم لأربعة شبان مسلمين من غرب لندن في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كانوا يعتزمون ارتكابَ أعمال إرهابية. وقيل إنهم أقسموا على الولاء ل «داعش»، وخطّطوا لهجوم إرهابي على الجنود أو الشرطة في لندن. وقد اتُّهم رجل خامس باستيراد بندقية وذخيرة من طراز «بايكال». وسبق أن شهدت بريطانيا آثارَ الإرهاب الإسلامي المدمّر، ففي 7 تموز (يوليو) 2005 تسبّب أربعة انتحاريين بمقتل 52 شخصاً بريئاً في هجمات على قطار أنفاق وحافلة في لندن. وكان ثلاثة من الانتحاريين الأربعة مسلمين من أصل باكستاني ولدوا في بريطانيا. وفي 22 أيّار (مايو) 2013، قُتل الجندي البريطاني لي ريغبي في وضح النهار في أحد شوارع لندن، بأيدي شابين من نيجيريا كانا قد ترعرعا كمسيحيين ليعتنقا الإسلام لاحقاً، وقد دهساه بالسيارة وحاولا قطع رأسه. أمّا الاستخدام الواسع النطاق للذبح في سورية والعراق، فهو أحد سمات الإرهاب، وقد أدّى بعض البريطانين دوراً في انتشاره. واللافت أنّ الرجل الملثم والطويل القامة الذي يرتدي ملابس سوداء، والذي ظهر في أربعة أشرطة فيديو يقطع رؤوس الرهينتين الأميركيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف، والبريطانيين ديفيد هاينز وآلان هينينغ، قرب الرقة، يتحدّث الإنكليزية بلهجة بريطانية لندنيّة، وهو نفسه الذي أجهز ذبحاً قبل أيام على عامل الإغاثة الأميركي بيتر كاسيغ الذي اعتنق الإسلام واتخذ اسم عبدالرحمن. وقد أطلق الإعلام البريطاني على هذا الجلاد لقب «جون الجهادي». إلى ذلك، قام بريطاني اسمه كبير أحمد، معروف باسم أبو سمية البريطاني، من مدينة داربي الإنكليزية الشمالية، بتنفيذ الهجوم الانتحاري الأول في العراق أخيراً باسم «داعش» في بيجي، ما أسفر عن مقتل ضابط شرطة عراقي بارز وسبعة ضباط آخرين. ومن جهة أخرى، فجّر عبدالوحيد مجيد، الانتحاري البريطاني الأول في سورية، نفسه في شباط (فبراير) الماضي، بعد أن حمّل شاحنة بالمتفجرات ودخل فيها إلى أحد السجون في حلب. وفي سياق المحاولات التي تبذلها الحكومة للتعامل مع التهديد الإرهابي الناجم عن «داعش»، تناقش مشروع قرار حول كيفية التصرّف مع الجهاديين الذين عادوا أو يرغبون بالعودة، فضلاً عن محاولة ردع أولئك الذين يخططون للانضمام إلى «داعش». بعد إقدام «داعش» على ذبح الرهينة الأميركي جيمس فولي في 19 آب، وتزايد الخطر الإرهابي في بريطانيا، تعهّد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون للنواب بإدخال قوانين جديدة صارمة لمكافحة الإرهاب. وفي 13 تشرين الثاني الجاري، خلال كلمة ألقاها كامرون أمام البرلمان الأسترالي في كانبييرا، كشف عن التدابير التي سيتم تضمينها في مشروع قانون جديد لمكافحة الإرهاب. وتعتزم الحكومة نشرَ مشروع القانون بحلول نهاية تشرين الثاني الجاري والإسراع بإقراره في البرلمان بحلول نهاية كانون الثاني (يناير). ويفيد القانون المقترح لمكافحة الإرهاب بأنّه سيتم منع الجهاديين المشتبه بهم، الذين يريدون العودة من سورية أو العراق - بموجب «أوامر الحظر الموقت» الجديدة - من العودة إلى بريطانيا لمدة سنتين على الأقل - ما لم يوافقوا على المحاكمة أو الخضوع للإقامة الجبريّة أو لمراقبة الشرطة أو متابعة دورة عن «التخلّص من التطرّف». وإذا لم يوافقوا على هذه الشروط، فسيتم إلغاء جوازات سفرهم وتوضع أسماؤهم على قائمة «حظر الطيران» لمنعهم من العودة. ووفق ما أعلن كامرون، سيتم منع شركات الطيران التي لا تمتثل لقوائم حظر الطيران أو تدابير الفحص الأمني من الهبوط في المملكة المتحدة. إلى ذلك، سيواجه الجهاديون الذين يحاولون دخولَ بريطانيا في شكل سريّ، حكماً بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة ارتكاب جريمة جنائية جديدة. علاوةً على ذلك، ستُعطى الشرطة أيضاً صلاحية الاحتفاظ بجوازات سفر الأشخاص الذي يُشتبه بأنّهم ينوون السفر إلى الخارج للقتال في سورية أو العراق لمدة 30 يوماً . إلّا أنّ هذه التدابير المقترحة في مشروع قانون مكافحة الإرهاب مثيرة لجدل كبير، وثمّة مخاوف من عدم توافقها مع القوانين القائمة حول حقوق الإنسان والهجرة والمواطنة. فعلى سبيل المثل، يمكن أن يُعتبر رفض السماح للجهاديين البريطانيين بالعودة إلى المملكة المتحدة كمحاولة لحرمانهم من حقّ الانتماء إلى وطن، الأمر الذي يعتبر غير قانوني بموجب القوانين البريطانية والدولية. وتقول وزيرة الداخلية في حكومة الظل العمالية إيفيت كوبر إنّه يجب اتّخاذ المزيد من الإجراءات لمنع التطرف، مشيرةً إلى ضرورة أن ترغم الحكومة كل الجهاديين العائدين إلى البلد على الخضوع لدورة تخلّص من التطرّف. لقد تم تصميم برامج التخلّص من التطرّف لمنع انتشاره، إلّا أنّ شكوكاً تسود حول مدى فعاليتها. ومن أهمّها برنامج «التجسّس» الذي يشكّل جزءاً من استراتيجية منع التطرف العنيف المعروفة باسم «منع»، وقد طرحته حكومة حزب العمال بعد الهجمات الانتحارية التي شهدتها لندن في تموز 2005. ويهدف برنامج «التجسّس» إلى تحديد الأشخاص الذين من المحتمل أن ينخرطوا في التطرف العنيف وتقديم الدعم لهم، بالاستناد في شكل أساسيّ إلى تدخّلات على صلة بالمجتمع، في ما يشكّل تحديّاً لمعتقداتهم المتطرفة. إلّا أنّ هذا البرنامج يفتقر إلى التمويل ويكاد يكون عاجزاً عن مواجهة الطلب المتزايد على موارده. وفي الفترة الممتدة من نيسان (أبريل) 2007 إلى آذار (مارس) من العام الحالي، أُحيل حوالى 4000 شخص على برنامج «التجسّس». وفي الوقت الراهن، تتمّ إحالة حوالى 50 شخصاً كلّ أسبوع على برامج التخلّص من التطرّف. والجدير ذكره أنّ عدم اليقين الذي ساد في الأسابيع القليلة الماضية حول المعاملة التي سيتلقاها الجهاديّون لدى عودتهم إلى المملكة المتحدة، يجعل بعضاً منهم يترددون في العودة. وأُفيد أخيراً بأن ما يصل إلى 100 جهادي بريطاني، ممّن سافروا إلى سورية، تقطعت بهم السبل في تركيا، وهم يخشون العودة إلى بلدهم. ويبدو أنّ تنظيم «داعش» صادر جوازات سفر البعض منهم. ويصرّ بعض المراقبين على ضرورة منع الجهاديين مؤبداً من العودة إلى بريطانيا. وخلال حلقة من برنامج إذاعي اسمه «العالم الليلة» بثّتها قناة «بي. بي . سي»، قال الكولونيل ريتشارد كمب، وهو قائد سابق في القوات البريطانية في أفغانستان: «يجب أن ندرك أن تلطيخ أيديهم بالدم سيحضّهم على العودة وارتكاب أعمال إرهابية ضدّنا. وبالتالي، من الأفضّل ألا نتيح لهم فرصة القيام بذلك». ويضيف كمب: «لماذا ننفق مال الضرائب لإحالتهم على المحاكم وزجّهم في السجون، أو ننفق مبالغ ماليّة طائلة على برامج تخلّص من التطرف أو على المراقبة؟ الأفضل طبعاً ألّا يعودوا البتة». إلّا أنّ مدير «المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي»، بيتر نيومان، يعارض هذه الفكرة تماماً ويقول: «لا بدّ من التعلّم من دروس التاريخ؛ فما حدث بعد [الحرب ضد السوفيات] في أفغانستان في ثمانينات القرن العشرين هو أنّه لم يُسمح للناس بالعودة إلى بلادهم. وكانت دول كثيرة في الشرق الأوسط تصادر جوازات سفر مواطنين وتهدّد بقمع «العرب الأفغان» الذين قاتلوا مع المجاهدين في أفغانستان». والواقع أنّ هؤلاء «الأفغان العرب» أُرغِموا على البقاء في أفغانستان وتوجّهوا إلى جبهات قتاليّة أخرى، وشكّلوا شبكات دولية برز من بينها تنظيم «القاعدة» في نهاية المطاف. * صحافية بريطانية