تطل على الساحة التي أمام الحصن وعلى الجامع الملحق به. عبر قضبان حديد الضلفة اليمنى يُمكن رؤية مدخل الحصن ومئذنة الجامع وموكبي الوالي والقاضي وحلقة الرجال المحيطة بهما عند سارية العلم كل صباح. كل صباح، عند السابعة، يصل موكب الوالي، سيارتا لاندروفر رماديتا اللون، سيارة الوالي، وخلفها سيارة العسكر. يترجل الوالي، وسائقه ويترجل العسكر الثلاثة من سيارتهم. الوالي في منتصف الثلاثينات، مربوع القامة، دمث الأخلاق، سمح المحيّا، لحية سوداء مشذبة بعناية تُزين وجهه المدور، تبدو عليه النعمة، متأنقاً من دون تكلف. قبل دخوله الحصن يقوم بجولة في الساحة، يمشى إلى حيث سارية العلم، في تلك اللحظة تكون حلقة الرجال أوشكت على الاكتمال عند السارية في انتظار الوالي لمصافحته والتصبيح عليه وتبادل الأخبار والعلوم معه، سُنّةً قديمةً، حرص عليها جميع الولاة الذين تعاقبوا على الولاية، الوالي السابق – يقال - لم يكن على درجة حرص الوالي الحالي، كان يتأخر أحياناً وأحياناً يكلف القاضي بلقاء الصباح أو نائب الوالي. بعد دقائق يصل موكب القاضي، سيارة لاندروفر رمادية اللون، يترجل منها معه سائقه وحارسه العسكري. في حدود السبعين من العمر، وجه شمعي يخلو من التعبيرات، خدان ممتلئان يلمعان، عينان واسعتان حذرتان سريعتا الحركة، قصير القامة، لحية كثة مدورة معتنى بها يخالطها قليل من السواد، يعنى بمظهره، يتأنق في لباسه وغالباً تصحبه نفحة خفيفة من خليط عطور مركزة، ينضم القاضي إلى حلقة الوالي والرجال، يسلم على الوالي بتواضع تفرضه هرمية المنصب، يقف إلى جواره فيتوالى عليه الرجال مصافحين ومصبحين. يسأل القاضي الوالي عن الأخبار والعلوم، فيعرض الوالي سؤال القاضي على الرجال، لكن أحداً لا يجيب، فيجيب الوالي ان أحداً لم يأت بخبر أو علم إلا خبر الخير وعلمه، وحين يتحرك الموكبان إلى داخل الحصن تتنفس الولاية الصبح وتدب الحياة مسبّحة بحمد الله وشكره. عبرها، وحتى حين تكون مغلقة، تعبر إلى الداخل أصوات الساحة، خطوات البنات والأولاد ذاهبين وغادين من المدرسة، عراك الصبية، شجار بين رجلين أو أكثر، سيارة رجب الشيفروليه السوداء تستعجل من استأجره لمشوار إلى الطبيب أو إلى العاصمة وأحيانا لتأدية واجب عزاء في ولاية أخرى، صياح بائع السمك، صياح بائع الفجل، البحر ليس بعيداً، على مسافة خطوات، أحياناً يُسمع صوت الموج على الشاطئ خصوصاً ساعات الليل، صوت الأذان يصل وحوقلة المؤذن قبل أذان الفجر أيضاً، حتى جلبة أهل الحصن تصل أحياناً. الحياة داخل الحصن طبيعية لا تختلف كثيراً عن الحياة خارجه، عدا الغرفة المستطيلة المدهونة بالنورة، التي على الركن الأيمن لسور الحصن، على يمين البوابة الرئيسة والتي يقضي فيها المحكومون عقوبة السجن. لهذه الغرفة كوة صغيرة بشبك من قضبان حديد، مرتفعة حتى تكاد تلامس حافة سور الحصن تكفي لدخول قليل من الضوء وقليل من الهوء، لكنها تسمح لأصوات، لهمهمات المحكومين، لضحكهم وبكائهم ولصلوات بعضهم بالسباحة مع تيار الهواء إلى الخارج. لا يُعرف شيء عن الحال داخل هذه الغرفة، لكن أحدهم نقل عن عسكري الوالي قوله، ان صاحب السعادة وحده يدخل إلى المحبس كل ظهيرة يقضي مع المحكومين نصف ساعة بين الثانية عشرة والثانية عشرة والنصف وهو ما لم يكن يفعله الولاة السابقون. «خشبية» بضلفتين تزينهما من الخارج عصافير حفرها إزميل ماهر، أربعة في كل ضلفة، عصافير رمادية بمناقير صغيرة ناعمة وأجنحة مضمومة، تنظر إلى الأمام، إلى الأعلى قليلاً، كأنها تنظر إلى الكوة التي في حائط المحبس الذي في الحصن، تحرسها قضبان حديد، ثلاثة على كل ضلفة. تغرد العصافير ثلاث مرات في اليوم، أول الصباح، وبعد أذان العصر والثالثة لا وقت لها، يمكن أن يُسمع تغريد العصافير في أي وقت حتى بعد أن تُصِر مفاتيحُ الإمام في قفل باب جامع الحصن بعد صلاة العشاء وخلو الجامع من المصلين، لكن لا يمكن أن تُسمع بعد أن تُرجَمَ نافذةُ الدخول إلى الحصن التي تشبه عينا صغيرة في ضلع البوابة العملاقة، بمغاليق الحديد من الداخل، وفي اللحظة التي تُشعلُ فيها القناديل التي على أبراج الحراسة تصمت العصافير التي على خشب النافذة وتصمت الولاية كلها وتنام. قيل، مرة، إن القاضي سمع تغريد العصافير فقال إنه يشبه تغريد عصافير الجنة، وقيل إن أحد حضور مجلسه سأل «ومتى سمع فضيلته تغريد عصافير الجنة؟»، فنهر القاضي من سأل وأخرجه من مجلسه. تنام العصافير عندما تضاء قناديل أمن الحصن ويكتم المحكومون أصواتهم وتخلو الساحة من الناس. وعندما تُغلق الضلفتان، يسهر قنديل في الداخل يفكر في الزمن الذي يتحرك، بطيئاً، في دائرة مفرغة.