أتى الشيخ غفار عز الدين إلى المدينة على بغلة بيضاء وسأل عن بيت اسماعيل باشا المجر. كان معفراً بالغبار وشمس النهار الطويل تثقل لسانه. مع هذا شعر الحرس أمام باب الدركاه بالمهابة. وراء البغلة البيضاء التي لم ينزل عنها بانت بغلتان بلون الرماد أصغر حجماً أو لعل الأحمال أثقلتها فظهرت أقرب إلى الأرض. أحد الحراس ترك مركزه وسار أمام الشيخ الأبيض اللحية المدوّر العمامة في زحمة الناس والحمير والبضائع يشق له وللبغلات الثلاث درباً إلى «ساحة عالسور» حيث نصبت فرقة عثمانية خيماً موقتة. الشيخ غفار عز الدين تهادى مرهقاً في مكانه العالي وشعر بالهواء يغادر صدره ولا يرجع. في حياته كلها لم ينزل إلى بيروت غير مرتين: مرة مع قافلة من حوران نزلت في بلاد الشوف كي تعزي بشيخ عقل الطائفة ثم أكملت الطريق إلى الساحل في تجارة. وهذه المرة. هل يقدر أن يحصي السنوات الفاصلة؟ لعلها خمسون سنة! لكن هذا بلد آخر: بيوت على بيوت ودكاكين تزحم دكاكين وناس فوق ناس. الضجة مخيفة. نحاس يطرطق وأفواه كثيرة تتكلم في وقت واحد ولا أذن تسمع. وقف الحارس أسفل طريق تتسلق هضبة. مسح عرقاً عن وجهه ورأسه ثم نفض أصابعه صوب الأرض. هذا زاد الشيخ إنهاكاً. «اسأل يا شيخنا في باب القشلاق»، قال الحارس وهو يدل برأسه إلى السراي الكبير الذي يتوّج الهضبة. أخذ القرشين وهو يشكر ويدعو له بالتوفيق ثم تبدد في الزحمة. في تلك اللحظة تعالى الأذان. ضوء الغروب لوّن الوجوه بالأحمر. أمام حوانيت الخياطين خفقت أقمشة معلقة. في قريته في أعالي الجبل لم يسمع الشيخ غفار أذاناً يوماً. بينما يرتقي الهضبة إلى القشلاق تحركت شفتاه بلا وعي: الله يا كريم الله يا رحيم. هذا الفجر وهو يحمّل البغلات مع كنّاته لاحت منه التفاتة إلى أم علي - زوجته وابنة عمه - شبه مطوية عند العتبة تستند إلى الباب بيد واحدة، فخاف أن تقع على وجهها. بلغ هذا العمر من أجل أن يفقد أولاده؟ الأحفاد بعضهم نائم وبعضهم استيقظ لكن حتى الصغار فهموا في هذا الفجر ان الركض والقفز والصياح لا يجوز. بينما يحزم الجرتين بالحبال اقتربت ابنته بهية ومدت يدها. كانت أقوى من رجل، سميكة العظم، وحين أنهت تثبيت الجرتين ربتت على ظهر البغلة وقالت شيئاً. لم يسمع الدعاء بسبب بكاء كناته: نشيج محبوس يفلت من الأعماق فجأة ثم يُسترد كاللعاب إلى الداخل. دارت بهية حول البغلة التي تلوك شعيراً واقتربت منه. باست يديه وضمها إليه وباست كتفه. لم تبكِ. احترقت دمعتها يوم ترملت. بعد معركة عين دارة لم تعد نفسها. استقامت وحين نظر إلى وجهها مشفقاً يريد أن يقول لها كلمة طيبة أعجزه الموقف: بدت عجفاء يابسة متحجرة. أشاح بوجهه وصغرى كنّاته زوجة سليمان أنقذته بوقوعها بين ذراعيه. كانت المفضلة عنده ويحبها أكثر من ابنة وإذا مرض لا يأكل من غير يدها. رائحة سكرية حارة فاحت من رقبتها السمراء وملأت أنفه. عانقته وهي تدعو له وتوالت من بعدها الباقيات وجاء الصغار أيضاً. بعد ذلك اصطفوا مثل صف العسكر على المصطبة. أوشك عندئذٍ أن يترك خطته ويدخل وينام تعباً. لكنه تنفس ونظر إلى أم علي وقال: «ادعي للأولاد يا أم علي أن يرجعوا معي، الله يحب صلاة الأم». ثم ركب بغلته ونظر من أعلى إلى بهية وقال: «ادعي لأبيك بالتوفيق يا بهية، ادعي لي». كان يعلم أنها غاضبة ولا تقبل نزوله الى اسماعيل باشا. رفعت صوتها أمس حين عرفت وقالت كيف تذلنا هكذا يا أبي! أسكتها بحركة عنيفة من يده وهي تراجعت الى خلف كأنه سيضربها. طبيعتهما واحدة لكنها لا تعلم. بينما يبتعد على البغلة البيضاء في ذلك الفجر فهمت أنه يفعل هذا من أجل أم علي. هواء الجبل بارد آخر الليل، حتى في الصيف. لمّ العباءة على بدنه وأخذ يصلي بينما الطريق تنحدر صوب النهر. مع شروق الشمس تعثرت إحدى البغلتين فسمع بيضاً يتكسر في سلّة. نزل ورمى البيض الذي تكسر على الصخور جنب النهر وتذكر أم علي أصغر سناً تضحك وتقول ان البيض المكسور بشارة. * بكره علي قضى في كمين خارج دير القمر. بهاء الدين جرحته السيوف في وقعة زحلة ولفظ أنفاسه بجوار قلعة حاصبيا. بقي للشيخ غفار خمسة أبناء وهؤلاء محابيس عند اسماعيل باشا الهنغاري ينتظرون مع 550 درزياً السفن التي ستأخذهم إلى المنفى في طرابلس الغرب وفي بلغراد. أخبروه ان اسماعيل باشا يقبل الشفاعات ولهذا أتى. لكنه في طلعة القشلاق، بينما الشمس تغرب، اضطرب. استرد نفسه حين رأى عيون الحراس تتأمله. كان الباب الكبير مقفلاً وترجل أمام الباب الصغير. اشتدت قبضته على الرسن وهو يلفظ اسم الباشا. أخبروه ان الباشا يتعشى وانتظره واقفاً تحت شجرة الجميز في باحة القشلاق بينما العبيد ينقلون بعض أحمال البغلتين إلى المطبخ. كان الشيخ غفار يشير عليهم بعصاه المنحوتة من خشب الجوز مستخدماً كلمات قليلة. خرج أحد الكتبة من السراي ودعاه إلى الدخول والاستراحة. وجاء صبي من حيث لا يعلم ووضع أمام البغلات ماء وطرح على الأرض شعيراً. الشيخ ناوله من كيس القروش كما ناول عبيد المطبخ من قبله لكنه لم يدخل وظل واقفاً تحت الشجرة. غسل يديه ووجهه ورقبته وشرب ماء طعمه ملح وأكل حبات تين أودعتها احدى الكنّات جرابه. كان الظلام هبط والقناديل أضيئت وعُلقت عندما نادوا عليه أخيراً. في اللحظة التي ولج فيها العمارة الحجر العملاقة اختفى طنين أذنيه. أدرك أن أولاده هنا، في قبو السراي. باس يد الباشا والخاتم بفص الياقوت. «تفضل يا شيخ غفار»، قال اسماعيل باشا وأشار الى الطراحات جنبه. فاجأه ذلك: أن يلفظ الباشا اسمه. كان رجلاً غريب الوجه، يتكلم بصوت خافت حتى ان الشيخ غفار جاهد كي يسمعه على رغم قوة سمعه، وأغرب ما في وجهه عينه اليسرى شبه النائمة: كان الجفن متهدلاً على هذه العين، متجعداً. بدا مستريحاً صافي المزاج وهو يلتقط ابزيم النرجيلة ويسحب نفساً طويلاً. مصابيح الزيت المعلقة أنارت القبب وانعكست على رخام في الزوايا. «ماذا كنت تفكر الآن وأنت تحت الجميزة؟»، سأله اسماعيل باشا. تراجع الشيخ غفار الى خلف مرتبكاً. انحنى حين تحركت شفتا الباشا كي يصير أقرب ويسمع أحسن لكن هذا لم ينفعه: هل سمع خطأ؟ تكلم اسماعيل باشا من جديد مشيراً بالابزيم العاج الى النافذة البعيدة الغائبة في الظلال: «أردت أن أرى ماذا يفعل شيخ في مكانك وهو وحده». قبل أن يتكلم الشيخ حرّك الباشا يده مرة أخرى فأسرع أحد الواقفين في المدخل وبدأ يخفف ضوء القناديل. كان الفتيل يقصر والشعلة تتضاءل في جوف الزجاجة، قنديلاً بعد قنديل، وأمر الباشا بالتركية هذه المرة: «تكلم!». جاهد الشيخ وهو يركب الجمل في رأسه. ابتسم الباشا وتململت يده المستترة في قماش العباءة وهو يرجع الى العربية: «قل ما جئت من أجله!». بلا انتباه نظر الشيخ الى الجرتين اللتين جلبهما. كانت هذه ثروة العائلة. جرتا ذهب، ليرات ذهب عثملي استمرت ترنّ في رأسه مثل الرعب طوال رحلته من قمة الجبل الى هذه المدينة الرطبة. والآن كيف يبدأ؟ ضحك اسماعيل باشا وسبقه مرة أخرى: «هل تعرف ان الدعاوى المقدمة من المسيحيين ضد أولادك أكثر من الدعاوى ضد سعيد بيك جنبلاط ذاته؟ هذه العثمليات لا تكفي لدفع التعاويض عن نصف الدعاوى يا شيخ غفار. والشيخ سعيد مريض لكن أولادك في عز الشباب فكيف أفلتهم؟ لو طلبت هذا من فؤاد باشا تعرف ماذا يفعل؟ لا ينفيهم لكنه يعلق لهم المشانق تحت هذه الجميزة حيث كنت واقفاً». اليد تحركت مرة أخرى والعبيد دخلوا يحملون قهوة وحلوى وماء وفواكه. كان الباشا يحدق إليه شديد النظرة. فتح الشيخ غفار فمه لكنه لم يعرف ماذا يقول. تبدلت ملامح الباشا، صار كئيباً، هزّ رأسه وسحب من النرجيلة نفساً كأنه يتنهد. * «أعرف. عندي أولاد وأعرف. أنا ولدت في قرية على ضفة نهر الدانوب في بلاد الصرب. أبي كان يزرع الخوخ ويعمل منه البراندي المشهور في أراضي المجر. قريتنا كانت على الحدود في ذلك الوقت وحين أحرقها مصطفى باشا أبي الثاني وولي نعمتي، كنت في الرابعة. أبي كان يشرب نصف المحصول ويتعامل مع أخواتي وأمي تعاملي أنا الآن مع الجاريات الشركسيات. لا تشفى إحداهن من البقع السوداء حتى تتبقع الأخرى. أحياناً أنتبه أننا نتشابه. قطعوه بالسيوف وأنا أنظر. رأسه تدحرج مفتوح العينين على العشب القصير الأخضر. مثل هذه الفترة من السنة. والدانوب لم ينخفض بعد. كان الدم ينوفر أسود اللون من خرطومين في عنقه. حصان مصطفى باشا توقف فوق رأسي والشمس اختفت. ركلت الرأس ورأيته يتدحرج صوب النهر. قريتنا أعلى من الدانوب. أخذني مصطفى باشا الى بيته في اسطنبول وعلّمني مع أولاده. في الصيف كان يأخذني معه الى ضيعه في البوسنة والجبل الأسود وبلغاريا كي نتصيد. عاملني كأنني من لحمه ودمه وحين جرحوني في المورة ووقعت عن حصاني أصابته حمى وهو يأكل في القصر في أنقرة قبل ان يصل خبري إليه. الأب يقلع عينيه من أجل أولاده، يقولون. والبدو عندهم مثل: الدم ذهب أحمر. لكنني يا شيخ غفار لا أملك دم أولادك كي أبيعه». الشيخ الثمانيني التعبان سقط وجهه ولم ينبس بحرف حين سكت الباشا. من خارج النافذة تسللت أصوات متباعدة. كأن المدينة تسافر على البحر وتبتعد. تراجعت ضجة الناس وارتفع نباح الكلاب وعواء بنات آوى. تكاثف الظلام. قرقرت النرجيلة. مال جذع الشيخ غفار الى أمام مثل شجرة قصفوها. لفّ الباشا النربيج على عنق الزجاجة ثم رفع إصبعاً. اقترب أحد الكتبة وأعطاه ورقة. قرأ الباشا المكتوب فامتلأت أذنا الشيخ بالدم. «محمود غفار عز الدين 37 دعوى قتل وجرح وحرق – بشير غفار عز الدين 34 دعوى قتل وجرح وحرق – نعمان غفار عز الدين 31 دعوى قتل وجرح وحرق ونهب – سليمان غفار عز الدين 14 دعوى قتل وجرح وحرق – قاسم غفار عز الدين 12 دعوى قتل وجرح وحرق». مرة واحدة فقط ارتفع وجه الشيخ غير مصدق: عند ذكر الدعاوى على ولده نعمان. الا إذا خطف سيفاً في معركة ونسي أن يرده! «نهب؟ سرقة؟» لكن لسانه بقي معقوداً. جاء يطلب شفاعة فإذا به أخرس! «سأخدمك يا شيخ غفار خدمة. من أجل مكانتك عند قومك ومن أجل منزلتك بين أقرانك المشايخ الذين لم يردوا طلباً لأبي الوزير مصطفى باشا في حربه مع العاصي ابراهيم باشا المصري ومن أجل أعوامك وشيبة شعرك سأعطيك ما أعطي وليس من أجل هذه الليرات. عثملياتك سنوزعها على الأرامل والأيتام المسيحيين طعاماً ولباساً وهذا نعرف أنه يرضيك. وكي لا ترجع الى بيتك وحيداً سأعطيك من يرافقك. انتقِِ واحداً من أولادك الخمسة وخذه معك من الزندان. اذهب الآن بسرعة يا شيخ غفار قبل ان أبدل تفكيري وتندم. الله معك».