راحت صرعة أفلام آلات الزمن التي تشد البطل عشرات السنوات إلى الوراء أو تجره عقوداً من الزمان إلى الأمام، لكن لو قدر لأحدهم أن يدفع بمصر كما هي اليوم إلى عقدين أو ثلاثة إلى الوراء لمات المصريون من الضحك أو البكاء أو الاثنين معاً. يوم الاثنين الماضي حين استيقظ المصريون على نبأ اغتيال ضابط الأمن الوطني محمد مبروك على أيدي مجهولين في حي مدينة نصر (شرق القاهرة)، اعتبرته الغالبية من دون انتظار توصيف الداخلية أو وصف الإعلام أو تصنيف الرئاسة، «شهيداً وطنياً» وإضافة ضمنية إلى القائمة التي سقطت منذ هبوب رياح الربيع وزعابيب التغيير. التغيير في المسمى الذي لحق بجهاز الأمن الوطني - أمن الدولة سابقاً - لم ينطل على جموع الشعب ولم يقنع الملايين في الوطن، لكن ما تغير حقاً لدى بعضهم هو نظرة الامتعاض وقشعريرة الخوف وزمهرير الروع سمة الحديث عن «أمن الدولة» قبل كانون الثاني (يناير) 2011، والمتحولة نظرة تقدير وقشعريرة امتنان وزمهرير الشتاء ولكن في دفء الذكريات. ذكريات المصريين عن حياتهم قبل كانون الثاني 2011 هزمت حاضرهم وأطاحت ثورتهم وعصفت بآمالهم الحقوقية في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. ويبدو اجترار الماضي بشكاوى انتهاكات الشرطة وفساد النظام وطغيان الحكام ودهس الحقوق ووأد الأحلام أشبه ب «نوستالجيا» الزمن الجميل وحنين الماضي الأصيل، إذ إن المقارنة بين ماضي حسني مبارك السحيق وحاضر «الإخوان» الرهيب ومستقبل الدولة الخفي يصب في مصلحة الأول اتباعاً لمقولة «لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع». واقع الحال في القاهرة أمس تجسد في تظاهرة مؤيدة ومعضدة وشادة من أزر جهاز الأمن الوطني أمام مقره في مدينة نصر ومؤبنة وداعية بالرحمة والمغفرة للضابط مبروك في إشارة واضحة ورسالة مباشرة قوامها «نار أمن الدولة وجحيم الفساد ولا جنة الإخوان وسعير التكفير». كفر بعض المصريين بحقوقهم المشروعة واعتبروها منناً مرفوعة، وآمنوا بأن أحلام الديموقراطية وشهوات إعادة الهيكلة ورغبات إنهاء الهيمنة جشع تعاقب عليه السماء وطمع يقل ما جمع. الجمع الذي هتف للشرطة ودعم الأمن الوطني وندد ب «الإخوان» تارة ضمنياً «لا للإرهاب» وتارة علناً «الإخوان هم الإرهاب» عكس مشاعر متضاربة وأحاسيس متناقضة ولخبطات متنافرة تعصف بقلوب وعقول المصريين. ولو قدر لهيربرت جورج ويلز الكاتب البريطاني رائد الرواية العلمية الخيالية في القرن التاسع عشر وصاحب رواية «آلة الزمن» أن يعود إلى الحياة اليوم لرأى أبعاداً فريدة ولرصد حدوداً جديدة لمسألة السفر عبر الزمن. رسالة ويلز من خلال سفريات الزمن لم تكن التحذير من أن وحوشاً ضارية وأوغاداً ضاربة وأوباشاً صاخبة تعيش تحت الأرض في انتظار الزمن المناسب للانقضاض، ولكن الرسالة كانت «احذروا العدو المتربص، إنه الزمن الذي يتغير، ليس بالضرورة إلى الأحسن». «أحسن ما حدث منذ ثورة يناير هو أننا تعلمنا إن كلمة التغيير ليست بالضرورة إيجابية، وأن العيش طالما يؤكل فهو خير، والحرية طالما تستشف فهي نعمة، والعدالة الاجتماعية طالما يتفوه بها المسؤولون فهي صدقة». إنجازات الثورة، كما يسردها حسن أحمد (الموظف والأب والزوج) الذي يعاني الأمرين منذ كانون الثاني 2011 على رغم نزوله التحرير وتهليله «الشعب خلاص أسقط النظام» ليس مرة بل اثنتين، لا تعكس أقصى درجات التشاؤم أو أعتى حالات الإحباط، إذ يظل هناك ما هو أقسى. فبين «يوم من أيامك يا مبارك» و «يوم الفساد بألف يوم من الفوضى» وغيرها من عبارات الإحباط والتشاؤم، تتفجر أفكار كاشفة وتتولد تحليلات مؤثرة. يقول أحمد الذي فقد عمله مرشداً سياحياً اعتاد مرافقة السياح الأميركيين إلى الآثار التي أرادت تيارات إسلامية محبة ل «الإخوان» هدمها باعتبارها «حضارة عفنة وأصناماً تلفة»: «حتى (وزير الخارجية الأميركي جون) كيري اكتشف فجأة إن الإخوان سرقوا الثورة». حتى الاكتشافات الخارجة عن إطار الزمان تنبئ بفقدان الإحساس به. فبعض المصريين الذين حلموا بإعادة هيكلة جهاز الشرطة وإعادة تنظيم منظومة الأمن الوطني وتعديل عقيدة الداخلية بات يرى أن الزمان ليس مناسباً والتوقيت لا يصب في مصلحة الوطن، وأصبح على قناعة بأن رحلة سريعة في آلة الزمن كانت كفيلة بتبصيره بأن حلم الحرية والديموقراطية ليس قريباً وأن التغيير ليس حميداً. أما أنصار «الشرعية والشريعة» الذين حلموا بإعادة هيكلة المصريين بحسب مقاييس مشروع الخلافة وإعادة تنظيم منظومة الأمن الوطني بحسب معايير مكتب الإرشاد ومقاييس التنظيم الدولي وتعديل عقيدة الداخلية لتواكب خطة التمكين وتوائم منظور «الأخونة»، فباتوا يرون أن الزمان ليس مناسباً والتوقيت لا يصب في مصلحة الجماعة، وأصبحوا على قناعة بأن رحلة سريعة في آلة الزمن كانت كفيلة بتبصيرهم بأن حلم الخلافة والهيمنة ليس قريباً وأن التكويش ليس حميداً. «التحالف الوطني لدعم الشرعية»، أو بعبارة أخرى جماعة «الإخوان المسلمين»، يدعو أتباعه إلى الاحتفال بمرور مئة يوم على «ملحمة الصمود» و «مذبحة القرن» غداً في «مليونية كلنا رابعة» في محاولة للسفر والترحال عبر آلة الزمان إلى عهد غابر وزمن بائد. والمصريون الباحثون عن مخرج، أي مخرج، للنجاة بأنفسهم وبالوطن من دوائر «الإخوان» المغلقة وحلقات الصراع المفرغة على قناعة بأن «قدر أخف من قدر» وحكم الجيش أو الفلول أو النخبة الزائفة أخف من حكم الجماعة وحلفائها، حتى إشعار آخر يكون فيه الزمن مواتياً والتوقيت مناسباً. الطريف أن «مذبحة القرن» في أدبيات الإخوان في باب «ما بعد ضياع الحكم» لا يقابلها سوى «مقلب القرن» في أدبيات المصريين في باب «ما بعد ثورة يناير».