«سينما ضد الطاغية»، شعار يبدو أن المخرج العراقي محمد الدراجي يتخذه في مسيرته الفنية المسكونة بسنوات الظلام في العراق إبان حكم صدام حسين وما خلّفه من قتل وتعذيب وبطش. سينما تُعلي صوت السياسة على أي صوت آخر، في محاولة للتطهّر من الماضي، إيماناً بأهمية الفن في «الشفاء من الأمراض النفسية التي خلّفها الديكتاتور عند كل عراقي»... من دون أن يبتعد المخرج في جديده عن الراهن وثورات الربيع العربي. «الحياة» التقت محمد الدراجي وسألته عن فيلم «تحت رمال بابل» الذي شهد عرضه العالمي الاول في مهرجان أبو ظبي السينمائي حيث فاز بجائزة أفضل فيلم عربي في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة: بعد فيلم «ابن بابل» الذي حققته عام 2010، تعود مجدداً الى بابل لتنجز فيلم «تحت رمال بابل»، فما القصة؟ - «ابن بابل» تناول فترة حساسة في تاريخ العراق، وتحديداً عام 2003 الذي شهد انتقال العراقي من شخصية مقيدة الى شخصية محررة، مع ما رافق ذلك من دمج بين مكونات المجتمع، خصوصاً بين الكردي والعراقي. كانت هذه رسائل أردت تمريرها. أما في «تحت رمال بابل»، فتحدثت عن اللحمة ذاتها والتقاء العراقيين، ولكن في فترة «عاصفة الصحراء» من خلال تأثير الحرب وانتفاضة عام 1991 على من هم داخل المعتقلات. فما أريد دوماً إيصاله هو أن هناك أحداثاً مرّت علينا في العراق وأثّرت فينا، من احتلال الكويت وحروب 1991 و2003 و2006 و2007، بما تضمنته من عنف طائفي، ولا يمكن بالتالي تجاهلها. ومن المهم جداً بالنسبة إليّ أن أفرغ هذه الشحنات وأتوقف عندها وأبعث رسائل معينة. لنتطهّر من جراحنا ما الرسائل السياسية التي أردت إيصالها من خلال هذا الفيلم؟ - أنا إبن هذه الفترة الزمنية. ابن هذا الجيل. جيل الحرب العراقية-الإيرانية وحرب الكويت والحصار. كل هذا أثّر في تكويني، وساهم في ترسيخ قناعتي بأن سبب مأساة العراق الآن هو النظام السابق. من هنا يتوجب عليّ أن أتوقف عند هذه الفترة الزمنية لا لاتهام صدام أو تقديمه بصورة الطاغية، ولكن لأننا كعراقيين علينا أن نتطهر من جراحنا. حتى المذنب لديه حسرة أنه لم يكفّر عن ذنوبه. ولكن لو تحققت العدالة الاجتماعية، وصار بإمكان المذنب أن يسير في الشارع الى جانب ضحيته مثلما حصل في جنوب أفريقيا، مثلاً، عندها يمكن القول إننا شُفينا. هذا ما شهدته بنفسي في رواندا في القرية التي حصلت فيها المجازر، حيث الجلاد يجلس في السوق مع أهالي الضحايا جنباً الى جنب. صحيح ان المرء لا يمكن أن ينسى قاتل أبيه أو اخيه أو أمه، لكنه قادر على المسامحة والغفران. ثم من قال ان الضابط أو الجندي الذي ينفذ الأوامر مجرم؟ لا شك في ان الأخطاء كبيرة ولكني اعرف جيداً انه لا يمكن القضاء على مليون أو مليوني بعثي، وأدرك أنّ المشكلة التي وقعنا فيها في العراق، مصدرها موجة الانتقام التي ولّدت أحداث العنف التي نراها الآن. تعتبر إذاً أن تجاوز تلك المرحلة المؤلمة من تاريخ العراق لا يكون بتجاهل الممارسات العنيفة التي شهدتها بلاد الرافدين، بل بالحديث عنها، ولهذا سخّرت السينما لهذا الهدف؟ - ضروري ان نتكلم عن هذه المرحلة ونتوقف عندها ونناقشها. ففي أوروبا، مثلاً، نجحوا في تجاوز الحرب العالمية الثانية بعدما تحدثوا عنها وشرّعوا أبواب المحاكم لإحقاق العدالة. وحتى الآن لا تزال تصدر الكتب والتحليلات عنها. بالأمس مثلاً، قرأت أن هناك اكثر من 200 لوحة تشيكيلية تعود ليهود من بولندا وألمانيا سيتسلمها الورثة. ولكن، في العراق لم يحدث شيء من هذا القبيل، ولو قدّر لنا خلال السنوات الخمس المقبلة تنفيذ خطة صحيحة لدراسة فترة النظام السابق وتحقيق العدالة الاجتماعية، عندها ستأتي المصالحة الحقيقية التي نبحث عنها. في أحد مشاهد الفيلم حيث نستمع الى اخبار الثورة السورية عبر الراديو إشارة مضمرة الى أن التاريخ يعيد ذاته، فمثلما أتت التسويات على حساب الشعب العراقي بعد انتفاضة 1991، ستأتي التسويات على حساب الشعب السوري. هل هذا ما أردت قوله من إدخال أحداث آنية الى فيلم يتناول عام 1991؟ - عندما كنت أنجز «تحت رمال بابل»، كانت الأحداث السياسية تمرّ بسرعة في البلاد العربية، ما أثّر حتماً على ظهور الفيلم ونتائجه. والمضحك المبكي أنني حين كنت أبحث في الأرشيف العراقي، وقعت على الصور ذاتها تقريباً التي نراها اليوم في الصحف حول الثورة السورية... الوجوه والتعابير والمأساة ذاتها. من هنا أردت أن أقول إن «الربيع العربي» بصورة غير مباشرة بدأ في العراق، لكنّ العرب لم يساعدونا، وعُقد اتفاق الخيمة على حساب الشعب العراقي. أما ما يخيفني اليوم فهو أن نشهد اتفاقاً مماثلاً على حساب الشعب السوري. أيّ ميلودراما؟ بعيداً من السياسة وبالعودة الى الفيلم، يأخذ عليك بعضهم إغراق أفلامك بالميلودراما. كيف تردّ؟ - بداية أريد أن أستفسر ماذا نعني بميلودراما؟ ففي فيلم «تحت رمال بابل» نرصد 3 شخصيات في المعتقل تواجه تحدي المقابر الجماعية. أحدهما تلقى طلقتين في جسده والثاني مريض نفسياً والثالث فقد عينه. كيف أتناول هكذا موضوع؟ ما فعلته هو أنني استغللت الصمت بدلاً من الحوارات الثرثارة ولم أتجه إطلاقاً الى المليودراما بل على العكس كانت هناك حياة في المعتقل. ولو أردنا ان نقارن بين الشخصية الحقيقية التي استنطقتها في الفيلم (رجل كان من بين الناجين من المقابر الجماعية) والشخصية المتخيّلة، لوجدنا ان الأولى أرادت أن تنتحر فيما الثانية لم تتوقف عن الحلم. من هنا أقول إنني خففت من شدة المأساة الحقيقية من طريق الرواية. ولم أنجز docu-drama، إذ لم أنقل ما يُقال لي من حقائق الى الشاشة، بل قدّمت ما تخيلته، فلم لا يكون بين المعتقلين أشخاص يضحكون؟ بعد عرض الفيلم كثيرون كانوا مشدودين للأحداث، ومن بكى فعلها مرة واحدة فقط، وهذا ما خططت له برسم الحالة النفسية للمشاهد وتصاعدها وصولاً الى مرحلة التطهير. يسير الفيلم على خطين متوازيين: خطّ وثائقي يتضمن شهادات حقيقية لمعتقلين وضباط سابقين، وخطّ روائي لقصة متخيلة. لماذا مزجت الشكل الوثائقي بالروائي؟ - عندما بدأت كتابة السيناريو في 2007 كنت أمام فيلم روائي محضّ. لكنّ عبارة الوالدة التي قالتها لي في 2003 عندما كنت أصوّر فيلمي «أحلام»، غيّرت الوجهة، بعدما ظلّت تتردد على مسمعي وانا أكتب «تحت رمال بابل». قالت لي يومها: «لمَ تُتعب نفسك هكذا؟ خذ كاميرتك وانزل الى الشارع وصوّر... حياتنا صارت سينما». لم أفهم حينها هذه الكلمات التي صدرت عن أمي التي لا تعرف الكتابة والقراءة، إذ كنت مأخوذاً بالسينما الروائية ومتحمساً لأول فيلم طويل لي. ولكن مع إنجاز فيلمي الجديد، شعرت أن الجانب الروائي لا يروي ظمأي. فخلال تصوير «ابن بابل» تعرفت الى هذه الشخصيات أثناء بحثي عما حدث في 2003 وكيف اكتشفت المقابر الجماعية، وهل كان هناك ناجون. التقيت عائلات كثيرة وشخصيات لم أصوّر معها بناء على رغبتها. ولا أخفي أنني واجهت مشاكل كثيرة بعد عرض الفيلم داخل العراق، إذ كان يُقال أن المقابر الجماعية كذبة كبيرة من نسج خيال الاميركيين. كان صدام حسين البطل القومي بالنسبة الى هؤلاء المساكين، وبالتالي لم يفرحوا ب «ابن بابل». وعندما بدأت العمل على «تحت رمال بابل» ولم أرَ في الجانب الروائي ما أطمح إليه، عدت الى أولئك الذين حاورتهم، وطلبت من بعضهم أن يتكلم أمام الكاميرا. ولم يكن من السهل إطلاقاً أن يتحدث الواحد منهم عن الماضي والمأساة التي عاشها. ولا ابالغ إن قلت إنه كان يوماً يجيبني عن أسئلتي بكل طاقة وحماسة وفي اليوم التالي يتحفظ عن ذكر أي كلمة. طبعاً مثل هذه التحوّلات مرهقة، لكنني أعايشها يومياً في عملي مع الشخصيات الروائية المتخيّلة. ولهذا تعاملت مع هؤلاء كشخصيات روائية، وبالتالي حاولت أن اتعامل مع الفيلم كعمل روائي، ولكن مع إدخال شخصيات حقيقية إليه. هل حاولت ان تنسف الخيط بين الحقيقة والخيال؟ - صحيح. ففي المشاهد الملحمية الضخمة، حاولت من خلال الاسلوب السينمائي الذي اعتمدته أن اجعل المشاهد في قلب هذه الأجواء من خلال حركة الكاميرا السريعة وانتقال المجاميع. أردت أن أصوّر المتخيل حقيقة، والحقيقة متخيلاً. لكنّ الواقع في فيلمك تجاوز المتخيل قساوة؟ - أكيد. انا دوماً أقول إن بين المتخيل والواقع في العراق خطاً رفيعاً قد تعبره في أية لحظة. أردت من هذا الفيلم أن أعرف فترة مراهقتي عندما كنت في بغداد. فنحن شهدنا انتفاضة. وبعض المناطق سقطت في أيدي الناس ل4 أو 5 أيام. كنا نسمع إشاعات عن مقابر جماعية سرعان ما اكتشفنا انها حقيقة. أردت ان أعرف ماذا حدث؟ ماذا حدث لجنود عراقيين أصدقاء لي عادوا من الكويت بعد الاحتلال، لكنهم لم يصلوا الى بيوتهم. هل قتلوا على يد الاميركي أم ذهبوا ضحية المقابر الجماعية؟ أتذكر صديقاً لي كنا نلعب معاً كرة القدم اكتُشفت جثته في المقابر الجماعية، بعدما اتهم بأنه جزء من الانتفاضة، ولا أخفي أن مصيره دفعني للبحث أكثر في هذا الملف. عذاب ضابط الاستخبارات هل كان سهلاً عليك التعامل مع من جسد شخصية الضابط في الجيش العراقي، خصوصاً انه كان في الاستخبارات العامة إبان حكم صدام؟ - لا، فهو أيضاً ذاق مرارة الاعتقال بعد اتهامه بأنه جزء من انتفاضة 1991 بما أن أخاه شارك فيها. ذاق الرجل العذاب لثلاث سنوات في الشعبة الخامسة ودُمر نفسياً. فبعدما كان صاحب سلطة ويعذّب الناس، صار في موقع الضحية. والمسكين أنه بعد خروجه من المعتقل بات مدمناً على الكحول، علماً انه لا يزال يعمل في الشرطة العراقية حتى الآن. كان يحكي كيف كان الجلاد والضحية في الوقت ذاته. وعندما بدأت العمل معه حاولت أن أُخرج منه صورة الجلاد. ولا أخفي أنه حين كان يعود الى هذه الهيئة كان يتحول الى رجل شديد القسوة. ومن الأمثلة على ذلك، مشهد الإعدامات حيث طلبت منه أن يبتعد عن الضحايا متراً ونصف المتر كي لا تؤثر الطلقات الصوتية عليهم، خصوصاً أنها قد تجرح إن خرجت من مسافة قريبة. لكنه لم يتقيد بالتعليمات وعاش الحالة من جديد وجرحهم. في مقابلة سابقة لي معك، قلت ان صدام جعلكم كعراقيين مرضى نفسيين. هل غيّرت رأيك؟ - هذه حقيقة، وما نراه اليوم يؤكد ذلك. خلال الفيلم التقيت كثيراً من الجنود الذين ذهبوا الى الكويت. كانت هناك دوماً عبارة مشتركة بين الجميع، هي: «كل ما كنت أريده هو أن أتخلص من شيء اسمه عسكري وان أبقي على سلاحي وأعود الى منزلي». عندما فكرت في هذه العبارة، فهمت أنهم يريدون أن يتخلصوا من الجانب العسكري ليتحرروا من النظام. في المقابل يريدون الحفاظ على سلاحهم باعتباره حماية، ويعودون الى بيوتهم لأنهم فقدوا وطنهم. وعندما اشتغلت على الفيلم، عملت انطلاقاً من هذا الخط. ماذا عن مشروعك الجديد وهل ستُكمل ثلاثية بابل؟ - الآن أحضر لفيلم بعنوان «محطة الياسمين» أو «رائحة الياسمين» يتحدث عن ال90 ثانية التي تلي تفجير إحدى الفتيات نفسها وقتلها 28 شخصاً. في القرآن الكريم هناك آية تقول: «ربي أرجعني لعلي أعمل عملاً صالحاً». اما السؤال الذي ينطلق منه الفيلم فهو ماذا لتتمنى هذه الفتاة لو قدّر لها أن تعود الى الحياة؟ اما الجواب فلقاء 6 من ضحاياها.