الرئيس الجديد للصين تشي شاوبينغ لم يخيب توقعاتي. توقعت بين ما توقعت، أن يحاول في أقرب فرصة ممكنة الحصول من الحزب الشيوعي الصيني على شرعية تؤهله للانتقال بالصين إلى مرحلة جديدة. مرحلة تكتنفها صعاب هائلة وتحديات ضخمة. كنت أعلم أنه يحلم بأن يسجل له التاريخ أنه قاد «الثورة الثالثة»، في سلسلة ثورات متكاملة للصعود بالصين إلى القمة الدولية. قاد ماوتسي تونغ الثورة الأولى وقاد دينغ تشاوبينغ الثورة الثانية، ثورة الانفتاح أو ثورة الواثقين من وطنهم وحزبهم وأمتهم، ويقود هو، أي الرئيس تشي، الثورة الثالثة والتي يفضل تسميتها بالثورة العميقة، ويقصد بهذه التسمية التأكيد بأنها الثورة التي سوف ترسخ إنجازات الثورتين الأولى والثانية، وهي الثورة التي تؤكد أحقية الصين لاحتلال مكانة الاقتصاد الأول في العالم، وربما أيضاً مكانة إحدى القوتين الأعظم في القيادة الدولية. تابعت خطوات الرئيس الصيني خلال العام المنصرم، أي منذ توليه منصبه، وكانت بالنسبة إلي كمراقب أجنبي علامات إرشادية لرؤية تشكلت لديه فعلاً. تابعت رحلاته خارج الصين، في أفريقيا وأميركا الجنوبيةوالولاياتالمتحدة وأوروبا وآسيا، يسمع ويرى ويقرأ، ويضع لبنات تعاون وثيق مع دول لم تطأها أقدام صينية من قبل، وإن أغرقتها السلع الصينية ونمت إلى مسامعها سمعة الدولة ذات الفرائض المالية الهائلة، الدولة الوحيدة القادرة على مد يد العون المادي لاقتصادات ناشئة. وفي الوقت نفسه كانت قد سبقته إلى هذه الدول سمعة الصين الدولة «العظمى» التي لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. يذهب الرئيس الصيني لزيارة دولة وهو لا يحمل معه موازين ومعايير للديموقراطية والشفافية وحقوق الإنسان، كما يفعل رؤساء دول عظمى أخرى يستخدمون هذه الموازين والمعايير في الابتزاز والتهديد أو لمجرد إثبات التفوق والغلبة وتأكيد حقها الموروث في الهيمنة والسيطرة، أو ربما في حالات نادرة صدقاً وأيماناً. في هذه الزيارات حقق الرئيس الجديد ما لم يحققه رئيس صيني آخر خلال الشهور الأولى من حكمه، فقد أرسى بنفسه وبخطة محكمة ومدروسة دعائم منظومة سياسة خارجية قوية ومتماسكة قبل أن ينشغل بشؤون «ثورته العميقة» في الداخل. تابعت كذلك الحملة المتقنة التي أدارها للتخلص من رموز في الحزب الشيوعي الصيني اجتمع فيها عنصرا الفساد والشللية. وانتهت أولى خطواتها بصدور حكم قضائي على بوشيلاي حاكم ولاية شونجكينغ وأحد أقطاب المكتب السياسي للحزب بالسجن بتهم تتراوح بين الفساد واستغلال النفوذ، فكان درساً عاجلاً وقاطعاً لبقية قيادات الحزب. كانت واحدة من القضايا التي اجتمعت فيها إرادة العمل الثوري وكفاءة التحديث والتحضر في شكل إجراءات سريعة وتعبئة إعلامية محترمة وسياسة خارجية متزنة حققت احتشاداً دولياً داعماً لجهود التخلص من الفساد واستبداد بيروقراطية الحزب. في الوقت نفسه كانت المحاكمة فرصة جيدة لإعادة ترتيب هيكل الولاءات وإضعاف مكانة الشخصيات التي نجحت على مر السنين في تكوين شلل وجماعات نفوذ داخل الحزب. وبالنسبة إلي كانت المحاكمة مناسبة للمقارنة بين سلطة حكم في مصر بددت طاقة ثورية لم تتوافر لشعب آخر فأضاعت على شعب مصر فرصة للنهوض كان مستعداً لأن يقدم فيها تضحيات هائلة. الزيارات الخارجية التي قام بها الرئيس الصيني الجديد وشبكة العلاقات والمصالح التي نجح في نسجها مع دول وقيادات سياسية أجنبية، ونجاحه في تأكيد ولاء القيادات الحزبية المحلية للقيادة المركزية في بكين، وتدخل القدر ليمنع سفر الرئيس باراك أوباما إلى جنوب آسيا للمشاركة في مؤتمري القمة في بالي وبروناي لدول جنوب شرقي آسيا والباسيفيكي، وللأداء الرائع الذي قدمه الرئيس الصيني في المؤتمرين، كان لها جميعاً الأثر الفعال في أن تزداد ثقة الإدارة الصينية الجديدة بنفسها، ولكن الأهم زيادة الثقة في قدرة الصين على أن تخطو وبشجاعة خطواتها النهائية نحو القمة الدولية. لم تفاجئني، والأمر على هذه الحال، الشعارات التي رفعتها قيادة الحزب الشيوعي الصيني خلال الأيام القليلة الماضية. لقد استعد الحزب لانعقاد اللجنة المركزية بشعار أساسي وشعارات مكملة أو ضرورية. كان الشعار الأساسي للمرحلة هو «الثورة العميقة». وهو ما يؤكد نية الرئيس الجديد في أن لا تقل فترة حكمه في إبهار العالم وللصينيين عن فترة حكم الرئيس دينغ الذي قاد أول ثورة إصلاحية أو تصحيحية بحسب رأي تيار أو آخر من تيارات الحزب الصيني. الشعارات الأخرى كانت أيضاً موحية، إذ نحا أغلبها منحى قومياً، بمعنى العودة إلى حشد الجماهير حول عظمة الشعب الصيني ومكانة الصين منذ القدم وإنجازات الأباطرة العظام، وبمعنى إثارة النعرة الوطنية ضد اليابان، وكذلك بمعنى التذكير بأن الولاياتالمتحدة لا تضمر للصين خيراً على رغم العلاقات التجارية الوثيقة بين البلدين، بدليل أنها ما زالت تحشد حكومات جنوب آسيا وأستراليا ضد حكومة بكين. من الشعارات أيضاً شعارات تمجد بعض إنجازات المرحلة الماوية في صعود الصين من براثن الجهل والأفيون والاستعمار الأجنبي، إلى مصاف الدول الناهضة. لاحظت في هذا الصدد وفي الآونة الأخيرة ولاحظ كثيرون من الأجانب، الميل المتزايد للإعلام الصيني للتركيز على «الأخلاقيات النبيلة» و «السلوكيات الفاضلة» وضرورات التضحية بالفرد في سبيل المواطن والحزب والشعب، وكلها من شعارات مرحلة الرئيس ماو تسي تونغ. تؤكد هذه التطورات، وكثير غيرها، قدر الاهتمام الذي يوليه الرئيس الجديد للمؤتمر الثالث للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني الذي بدأت أولى جلسات انعقاده قبل يومين في بكين. الأهمية الرمزية لهذا المؤتمر عظيمة وبالغة ليس فقط للرئيس والقيادة الحالية للحزب ولكن أيضاً لكافة قيادات الشركات الدولية العظمى وبيوت المال والمصارف والأسواق ووزراء المال والاقتصاد. بمعنى آخر، مؤتمر يحسب له «العالم الرأسمالي» ألف حساب. لا أحد مهتم بالصين يتجاهل أن مؤتمراً كهذا المؤتمر عقد في عام 1978 بقيادة الرئيس دينغ ومن خلاله خرجت قرارات الانفتاح الاقتصادي والسياسي التي كانت كالزلزال في النظام الدولي. مرة أخرى عقد «المؤتمر الثالث» وكان في عام 1993 وصدرت عنه قرارات إصلاح القطاع العام الصيني، وكان هدفه تصفية الشركات المفلسة وفتح الباب لبيعها والتخلص منها. وكان لهذه القرارات في وقتها وقع لا يقل أهمية بالنسبة إلى النهوض الصيني والأسواق المالية العالمية عن وقع المؤتمر الأسبق. الآن يعتقد مئات المراقبين ومديرو الشركات الأجنبية أن المؤتمر المنعقد منذ السبت ويستمر حتى الثلثاء، قد يصدر قرارات في قضيتين بالغتي الأهمية، وهما إصلاح القطاع الزراعي حيث يعيش وينتج ويستهلك أكثر من نصف سكان الصين. هؤلاء محرومون من حق التصرف في الأراضي أو في البيوت التي يسكنونها بالرهن أو البيع أو الهدم على رغم الإغراءات الهائلة التي تقدمها شركات العقارات الأجنبية والمحلية. هؤلاء أيضاً ما زالوا يعاملون معاملة غير لائقة عندما يهاجرون إلى المدن، وما زالوا يخضعون لاستبداد وفساد أجهزة الحزب والإدارة المحلية. القضية الثانية التي يناقشها المؤتمر هي المتعلقة بإصلاح الشركات الكبرى التابعة للدولة، وهي إحدى القضايا التي يهتم بها قادة الشركات الغربية الكبيرة الذين يعتقدون أن وجود هذه الشركات وتوسعها يحرمهم من مجالات استثمار وأسواق وخبرات محلية هائلة، لأن الشركات المحلية تحظى بأفضلية من جانب الدولة، فضلاً عن أنها تثير الرأي العام ضد نشاط الشركات الأجنبية وفسادها والرشاوى التي تدفعها لكبار موظفي الدولة، لذلك يطالب كبار القادة في الشركات الغربية عند لقائهم بالمسؤولين الصينيين خلال الأسابيع الماضية ضرورة وقف التحقيقات الجارية مع شركات أجنبية، كشركات الأدوية العالمية وألبان الأطفال وغيرها، وأكثرها متهم بتشجيع الفساد والغش في الأسعار والمواصفات. يطالبون بحرية كاملة في السوق الصينية، ويحذرون من عواقب تصعيد المشاعر الوطنية ضد شركاتهم. كتب جيديون راشمان في صحيفة «فاينانشيال تايمز» عن اجتماع الرئيس الصيني بقمم الرأسمالية العالمية في قصر المؤتمرات المبهر حقاً بأناقته وفخامته ومساحاته. بمناسبة قرب انعقاد المؤتمر يقول جيديون إن الرئيس كان يجلس وسط نصف دائرة، وخلفه اللوحة الشهيرة لسور الصين العظيم على امتداد الجدار بأكمله، وأمامه جلس رؤساء وزارة ووزراء سابقون وقادة سياسيون من أنحاء العالم، وجلس في نصف الدائرة المحيطة به من الخلف رؤساء مجالس إدارة ومسؤولون عن الشركات الرأسمالية الكبرى في العالم. بدأ الرئيس حديثه بتوجيه الشكر للضيوف على «إخلاصهم»!. وانتقل فوراً للحديث عن «خريطة الطريق» التي ينوي السير على نهجها لبعث شباب الدولة الصينية، واختار لها عنوان «الخطة الرئيسة». أكاد أقرأ في وصف راشمان للجلسة ووصف آخرين من ممثلي مركز القرن الحادي والعشرين ومقره نيويورك، وهو المركز الذي اشترك في تنظيم هذا اللقاء، أن الرئيس ومساعديه استغلوا اللقاء ليغرسوا في نفوس القادة الأجانب من سياسيين كبار ورأسماليين معروفين الاقتناع بأنهم يجلسون «في حضرة قيادة تاريخية» بالمعنى الرمزي والحقيقي، أي بمعنى لا يفهمه إلا من تلقى درساً أو قرأ عن تاريخ مرحلة مبكرة جداً في علاقات الصين بالدول الاستعمارية، وبخاصة الجانب المتعلق بطقوس استقبال إمبراطور الصين لمبعوثي أولئك البرابرة الغربيين. * كاتب مصري