من السهل القول إن اغتيال الاستخبارات الأميركية، باستخدام طائرة بلا طيار، زعيم حركة «طالبان باكستان» حكيم الله محسود في الأول من الشهر الجاري، عملية تكررت مرات في السنوات الأخيرة ضد قادة «ارهابيين» بارزين ومؤثرين أمنياً، لكن الأحداث التي رافقت الاغتيال أكدت أن العملية أكثر تعقيداً على صعيد الأهداف، إذ أحبطت خطة تحالف سري بين الاستخبارات الأفغانية والحركة الباكستانية من أجل الردّ بالمثل على ما تزعم كابول أنه دعم من إسلام آباد لحركة «طالبان» الأفغانية. قبل نحو 3 أسابيع من اغتيال محسود، اعتقلت وحدة أميركية خاصة لطيف محسود، أحد نواب زعيم «طالبان باكستان»، بعدما اعترضت قافلة للاستخبارات الأفغانية كانت تقلّه عبر ولاية لوغار (شرق) إلى كابول للقاء الرئيس حميد كارزاي. بدا للوهلة الأولى أن العملية نُفِّذت لقمع خلايا للحركة في أفغانستانوباكستان، قبل أن تعلن مصادر أفغانية أن استخباراتها تحاول منذ شهور إقناع لطيف محسود بالاضطلاع بدور محاور في مفاوضات السلام مع «طالبان» الأفغانية. ثم كشفت تقارير أكثر عمقاً، أن الاستخبارات الأفغانية سعت إلى تجنيد لطيف محسود لإنشاء تحالف غير واضح المعالم مع «طالبان باكستان»، والعمل في الوقت ذاته جاسوساً لها في باكستان. ويمكن أن يشكّل ذلك محاولة من كابول لإيجاد ورقة لدخول لعبة القوة الكبرى إقليمياً على أبواب الانسحاب الغربي من أراضيها والمقرر في نهاية 2014، لكن مسؤولين أفغاناً أشاروا إلى أن الهدف الرئيس لكابول تمثّل في تعزيز فرص الانتقام من الجيش الباكستاني الذي تتهمه بدعم المتمردين لزعزعة الاستقرار على أرضها. ومهما كانت أهداف الأفغان، رأى الأميركيون إن أي اتفاق سري بين كابول و «طالبان باكستان» للعمل ضد إسلام آباد لا معنى له إلا في حال موافقة كل قيادة الحركة عليه، وعلى رأسها حكيم الله محسود، فقرروا اغتياله بضربة صاروخية حولّته أشلاء، وجاءت بعد محاولات سابقة فاشلة عدة لقتله. وزاد تعقيدات أهداف العملية الأميركية تنديد إسلام آباد ب «إحباط الاغتيال عملية سلام كانت ستنطلق بعد أسابيع من التحضيرات مع «طالبان باكستان»، وتمهّد لتوقيع اتفاق يؤدي إلى إنهاء الحركة أعمال العنف ضد الحكومة في مقابل منحها بعض الحرية في التحرّك ضمن معاقلها في مناطق القبائل (شمال غرب) المحاذية للحدود مع أفغانستان. واتهم وزير الداخلية الباكستاني تشودري نصار علي خان واشنطن بتوجيه «ضربة محسوبة» لعملية السلام في بلاده، خصوصاً أنها جاءت بعد إبلاغ محسود «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أن «طالبان باكستان تؤمن بضرورة إجراء حوار جدّي، لكن إسلام آباد لم تتخذ خطوات للتقرّب منا، ويجب أن تجلس معنا للاستماع إلى شروطنا». لكن هذا الاتهام لا يُخالف التنديد المعهود لإسلام آباد بالغارات الأميركية، ولو أنه منحها للمرة الأولى منذ سنوات، حجة تجاوزت الإطار الإنساني للتنديد في مواجهة الغضب الباكستاني الشعبي العارم من الانتهاكات المستمرة لسيادة بلدهم. ولا يَخفى أن رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف اتفق مع الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال لقائهما في واشنطن الشهر الماضي على مواصلة إسلام آباد معارضتها العلنية للغارات الأميركية، في مقابل السماح سراً بشنّها. ودفع ذلك واشنطن إلى مكافأة شريف، العائد حديثاً إلى السلطة إثر فوز حزبه بانتخابات 11 أيار (مايو)، باستئناف مساعداتها الاقتصادية وقيمتها 1.5 بليون دولار لباكستان. وردّ شريف التحية بإصدار حكومته تقريراً خفّض عدد القتلى المدنيين في غارات الطائرات الأميركية إلى 67 فقط منذ العام 2008، أي أقل بكثير من الرقم 400 الذي أعلنته الأممالمتحدة أخيراً. بالنسبة إلى إسلام آباد، تظل «طالبان باكستان» حركة معادية تسببت في مقتل آلاف الأبرياء عبر هجمات شملت غالبية المدن الكبرى. وبين ضحاياها رئيسة الوزراء السابقة بيناظير بوتو، التي اغتيلت في تفجير انتحاري عام 2007، ويُتهم الرئيس السابق برويز مشرف بعدم توفير حماية مناسبة لها. كما أنه لا يمكن أن تثق إسلام آباد، استناداً إلى تجارب سابقة، بالتزام «طالبان باكستان» تطبيق الاتفاقات المبرمة. في الحصيلة، يُبقي اغتيال محسود تحكّم واشنطن بسياسة القضاء والقدر في المنطقة، وسط إشكالات العداء المتبادل بين الأطراف، الذي يُهدر فرص إبرام اتفاقات سلام تلبّي حاجات المنطقة مع اقتراب الانسحاب العسكري الأجنبي من أفغانستان.