مثّل النص الديني الإسلامي إطاراً مرجعياً عاماً للفكر العربي الإسلامي فكان له، من حيث هو نص، دور محوري في توجيه التطور اللاحق لذاك الفكر. وشكل النص (القرآن والسنّة) سلطة فكرية حكمت منذ البداية مجمل عملية الإنتاج المعرفي الإسلامي في العصرين الأول والوسيط، وحددت أبعاده المعرفية والمنهجية وهيمنت على توجهاته المتعددة. لم ينطلق القرآن من فراغ سوسيوثقافي وتاريخي، بل يبني على ما سبق تصحيحاً وإغناءً وتطويراً: «وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» [يونس:37]. وإذا كان القرآن يقطع مع ما سبق، فإن هي إلا قطيعة نسبية، بمعنى النقلة النوعية من إطار معرفي إلى آخر. ولم تكن لغة القرآن غريبة دائماً عن المجتمع المكي، فما أن صدع به النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى قالت العرب: «أساطير الأولين»، والأسطورة هنا من (سَطَرَ) أي صف ورتّب ونظّم، فهي الكلام المنظّم سطراً وراء سطر بحيث يسهل حفظه وتداوله ونقله، فالراجح أن المجتمع المكي كان منفتحاً على جملة معارف مختلفة مثلت محصلة لمختلف الديانات والمعتقدات التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية، أو بقايا المعتقدات والديانات الشرقية التي طبعتها الحياة العربية الحضرية والبدوية بطابعها الخاص. حفظ العرب تلك المعتقدات على شكل نظم وكلام مسطور إما شعراً وإما سجعاً. ويعنون المسعودي أحد فصول كتابه ب «ذكر أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم» («مروج الذهب ومعادن الجوهر»،ج1، ص61 وما بعدها)، فيذكر جماعة من أهل «التوحيد» ممن يقرون بالبعث ويتصفون بالحكمة والدراية. منهم: حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان العبسي، وأمية بن أبي السلط، وقس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأسعد أبو كرب الحميري. ونجد لدى ابن هشام جملة من المعارف المسطورة شعراً ينسبها إلى عمرو بن نفيل. («سيرة ابن هشام»، ج1، ص 227- ص 231) والتي تتقاطع مع مفردات الثقافة الدينية الإسلامية. وإذا كان الاعتقاد اليهودي ينظر الى الإصحاحات العشر الأولى من العهد القديم على أنها منزّلة أما الباقي فتاريخ، فالقرآن بكامله، وفق الاعتقاد الإسلامي، وحي مباشر من الله، على خلاف الأناجيل الأربعة لآباء الكنيسة والتي هي نوع من الوحي غير المباشر لهم. وفي الوقت الذي مثّل فيه القرآن امتداداً معرفياً لما سبق، فإنه يصادر على ما سيأتي حين يقدِّم نفسه على أنه الفصل الأخير في التاريخ الروحي للبشر، والذي تتحقق فيه المشيئة الإلهية، الكونية والاجتماعية: «...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا... الآية» [المائدة:3]. وسيشكل «تمام الدعوة» حجر الزاوية للفكر الأصولي الإسلامي الذي سينظر إلى التاريخ البشري اللاحق للدعوة وإتمامها باعتباره انحرافاً عن الأصل، ينبغي تصحيحه بالعودة لمقاربة ذاك الأصل أو مطابقته. إن سلطة النص في أحد تجلياتها تمثلت في عملية من طرفين متكاملين: الاستحواذ على ما سبق واستيعابه وممارسة التعديلات اللازمة عليه وإخراجه بصورة خاصة تتناسب مع المرحلة التاريخية المعاصرة للبعثة النبوية. هذا من طرف، من طرف آخر المصادرة على المستقبل وإخضاعه للحظة الدينية باعتبارها اصلاً. وتمخض عن هذه العملية المزدوجة حقل دلالي ومعرفي وقيمي جديد وإشكاليات ميتافيزيقية واجتماعية ومعرفية جديدة. إن إحدى الخصائص الكبرى للنص القرآني تمثلت في بنيته المفتوحة على صعيد القراءة (البنية اللغوية) وعلى صعيد المضمون (الموضوعات والأحكام والتصورات العامة). وقد أدرك الماوردي حقيقة انفتاح بنية النص الديني قرآناً وسنة، سواء من حيث البنية اللغوية، فيقول « وكلام كل كتاب وأخبار كل نبي لا تخلو من احتمال تأويلات مختلفة لأن ذلك موجود في الكلام كلما كان أفصح وأعرب وأحسن نظماً و أبعد مخرجاً كان أشد احتمالا لفنون التأويلات وضروب التفاسير»، ومن حيث المضمون: «ولا بد في الدين من وقوع الحوادث التي يُحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها، وعن خبر يُشكل معناه، وأثر تختلف التأويلات في فحواه على مر الأيام» («نصيحة الملوك»، ص 70). إن تعدداً في القراءة قد حدث فعلاً مما أدى، كما يقول الماوردي، الى إنتاج الاتجاهات والمذاهب المختلفة إزاء النص الواحد، حتى لو قدم كل طرف قراءته على أنها القراءة الوحيدة المقبولة. نستطيع هنا أن نميز مرحلتين: مرحلة انتهت بعملية جمع القرآن في مصحف واحد معتمد دون غيره بأمر من الخليفة عثمان بن عفان، في هذه المرحلة كان تعدد القراءة نجم غالبا عن مسائل تتعلق بغياب التنقيط وعلامات الترقيم في المصحف المكتوب واعتماد بعض الصحابة نمطاً من القراءة هو القراءة بالمعنى. وفي مرحلة لاحقة، فإن تعدد القراءة وبالتالي الفهم سيتعمق لاسيما في ظل الصراع السياسي الأيديولوجي الحاد الذي اشتد بعد مقتل الخليفة الثالث ومن ثم معركتي الجمل وصفين، ليأتي إعلان علي بن أبي طالب في موقعة صفين أن القرآن «حمال أوجه» بمثابته ادراكاً مبكراً لانفتاح بنية النص القرآني. مع ذلك، فإن الانفتاح على صعيد المضمون سيُكسب القرآن مرونة عالية لمواكبة الواقع المتطور بدءاً من لحظة «النزول» الأولى. وهنا يصح ما أعلنه مالك بن نبي من أن نزول القرآن خلال فترة زمنية امتدت ما يقارب العشرين عاماً، أكسبه اتساعاً في الموضوعات وقدرة على مواكبة كل جديد ومستجد في حياة المسلمين («الظاهرة القرآنية»، ص211). لقد جعل ذلك الدعوة الإسلامية متطورة ونامية، واكسب تشريعاتها مرونة عالية، ولكنه صحيح أيضاً أن ذلك ما كان ممكناً لولا انفتاح البنية على صعيد اللغة الذي أتاح مرونة في فهم الواقع المتغير عبر إعادة القراءة في كل مرحلة زمنية مستجدة. تغيرت التشريعات من فترة لأخرى عبر آلية «النسخ»، وسيصبح العلم بالناسخ والمنسوخ أحد الشروط الرئيسية الواجب توافرها في المفسرين والمجتهدين والفقهاء. كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يشرح لأصحابه ما خفي عليهم من معنى ويفصل الأحكام الواردة في القرآن ويبين ناسخه من منسوخه، لكن مع مرور الزمن وتقادم العهد سيختلط ناسخ القرآن بمنسوخه وسيصبح من الصعب حصول اتفاق عام بين المسلمين على الآيات الناسخة والمنسوخة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار فترة العلم الشفاهي منذ وفاة الرسول وحتى عصر التدوين الإسلامي، وهذا بدوره سيؤدي الى الاختلاف في التشريع وتعدد وجهات النظر الفقهية. ألحّ بعض المفسرين الذين تحلوا بحس تاريخي، بحدود قليلة أو كثيرة، على أسباب النزول واعتبارها عاملاً حاسماً في تفسير القرآن واستنباط الأحكام الشرعية، ولكن، بعد أن كانت الآية/الحكم تُشَرِّع عقب الحادثة المُشَرَّع لها، ستسير العملية باتجاه معاكس ليتقدم التشريع أو الحكم الحادثة المُشرَّع لها. سيتضح هذا التوجه عند «الأرأيتيون» أو أصحاب المدرسة الفقهية المعروفة بأهل الرأي، وكان من أبرزهم الإمام أبو حنيفة النعمان وعبد الله بن مسعود. واستطاع الفقه الحنفي تطوير نوع من الفقه الافتراضي ذي الصيغة: (أرايت لو أن... فما حكمه؟). وربما تمثل رد الفعل على هذا الفقه الافتراضي في عملية تقعيد القواعد وتأصيل الأصول التي قام بها الإمام الشافعي، وهدفت أساساً إلى رد المسائل الجزئية الكثيرة التي نتجت من الفقه الافتراضي الى أصول عامة، حيث ضيّق حدود الاجتهاد في الرأي وأحل محله القياس فأعاد الى النص (السنة) أوليته التشريعية. تشترك السنة النبوية، من حيث كونها نصاً، مع القرآن في إشكالية القراءة، بل ربما انفردت أيضاً بإشكاليتها الخاصة المتمثلة بالتوثيق، وعلى رغم تطور علوم الحديث وتطوير منهجياته وأدواته لا سيما ما عرف بعلم الرواية وعلم الدراية، فإن ذلك لم يَحُلْ في خضم الصراع السياسي والأيديولوجي والفكري دون كثرة الأحاديث الموضوعة، ومع التضخم في الروايات يصح رأي غولدتسيهر في أن الحديث (الموضوع منه) ليس مصدراً تاريخياً لنشأة الدين بقدر ما هو وثيقة مهمة لتطور الإسلام اللاحق. لقد كان الفقه مشروطاً باستراتيجية التنظير للنص الديني وجودياً ومعرفياً ومن داخل النص بخاصيته المذكورة (انفتاح البنية) وفي دائرته، وهو الأمر الذي كان سبباً أيضاً في تلك التعددية الفقهية. يعلل ابن خلدون («المقدمة»، ص 445- ص446) ظهور الخلاف في الأحكام الشرعية بأن «الأدلة غالبها من النصوص (الكتاب والسنّة) وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها لِكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف وأيضاً مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضاً فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها وأيضاً الوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص... وهذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقوع» وإذا كان الخلاف قد وقع حول الأحكام الشرعية أي في الجانب العملي، فإن الخلاف في الجانب النظري (العقائد) هو من باب أولى. ويعلل ابن خلدون نشأة علم الكلام بالآيات المتشابهات، وربما يكون أبو حنيفة هو أول من نبّه إلى التمييز بين ما هو متشابه وما هو محكم، وسيغدو الإلحاح عليه مقدمة للتمييز بين ظاهر وباطن للنص القرآني ومقدمة لإعطاء العقل دوراً أساسياً ليكون حكماً على النصوص يفصل في صحتها، ويفتح الباب أمام التأويل العقلي ليلعب دوره في النفاذ الى باطن النص وفض كنهه واستنطاق المسكوت عنه الذي لم ينطق به ظاهره. على الضفة الأخرى سيقف الفقه الظاهري، مع داود الأصبهاني وابن حزم في رفضهما لقسمة النص إلى ظاهر وباطن، وذهابهما إلى أبعد مما ذهب إليه الشافعي حين يرفضان القياس، فيصبح الفقه معادلاً للنص فقط لا حملاً عليه. ستبرز صيغتان فكريتان وأيديولوجيتان متعارضتان، أرادت الأولى أن تبقي العقل داخل دائرة النص والاعتقاد، ليكتفي بوظيفته التسويغية التأملية عبر الإلحاح على النص بوصفه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بينما حاولت الثانية تحرير العقل من تلك الوظيفة التسويغية ومنحه حركته الذاتية من حيث هو أداة تنتج معرفة بدل أن تفرض عليه حركته من خارجه، أي من دائرة النص والاعتقاد. وقد حققت هذه الصيغة الأخيرة نجاحاً متفاوتاً ونسبياً عبر كثير من الانحناءات والتعرجات والتحولات التاريخية، وعبر تطوير آليات وأدوات معرفية ومنهجية جديدة في التعاطي مع النص كان أبرزها التأويل العقلي. لكن كلا الصيغتين كانتا في حاجة إلى الاستناد إلى النص بحدود قليلة أو كثيرة لتبرير مشروعيتهما النظرية والأيديولوجية، وحتى الصيغة الثانية في أحد تجلياتها المتقدمة (الفلسفة)، فإنها وإن أرادت التحرر من سلطة النص الديني إلا أنها وجدت نفسها حبيسة فضاء إشكالياته محتاجة له لتبرير مشروعيتها الفكرية والمعرفية. على رغم إدعاءات كل فرقة أو مذهب أن قراءتها هي القراءة الوحيدة الممكنة، فإن ما أتاح لهذه التعددية الفكرية والإيديولوجية والمنهجية توغلها في الثقافة العربية الإسلامية هو غياب أي جهاز كهنوتي حقيقي يأخذ على عاتقه حسم الخلاف في العقائد الدينية والأحكام الشرعية، ويفرض بالتالي حلاً وحيداً كما هي الحال عموماً وغالباً في المسيحية. ولم يعترف الإسلام بتوجهه العام بأي وسيط بين الله والإنسان ولم يكن لأحد أن يدعي الاحتكار المطلق لتأويل القرآن والسنة. إن غياب أرثوذكسية إسلامية أسهم في تلك التعددية الشرعية والعقائدية، أما ما يفترضه البعض من أرثوكسية ما، فلا يعدو أن يكون نوعاً من التحالف المعلن أو غير المعلن بين السلطة السياسية في عصر ما وأحد المذاهب الشرعية أو العقائدية. من دون أن ننكر بالطبع، ما أدت إليه هذه التحالفات من إعاقة لعملية الانتاج الفكري وما كرسته من ذهنية التكفير والإقصاء التي لا تزال آثارها السلبية ترخي بظلالها على المجتمعات العربية والإسلامية، لاسيما منذ بدايات القرن الحادي عشر، لحظة الإعلان القادري: «هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد كفر». * كاتب فلسطيني - دمشق