عام 2008 بدأت "دار الشروق" المصرية في مشروع "مدونات الشروق"، الذي كان حينها اتجاهاً أدبياً فريداً عدَّه كثيرون "بُشرى خير" كُبرى بتحوُّل خارج عن مألوف صِناعة القرار في واحدة من أهم دور النشر العربية؛ وهو قرار سيعود أثره بكل تأكيد على الوسط الأدبي المصري كله، بما فيه دور النشر الأخرى؛ تحوُّل من الأسلوب الكلاسيكي في اقتصار النشر على المشاهير والفنّانين والسياسيين السابقين والأدباء الذائعي الصيت، إلى البدء في انتقاء المواهب الحقيقية من ذوي الأسماء المَغمورة من فئة عريضة من المُدونين الشباب المُميزين والمنعزلين في شكل أو بآخر عن القِطاع النخبوي الثقافي القاهري، بصِغر أعمارهم، ورحابة أفكارهم، وتمرد أطروحاتهم بل جنونها أحياناً. كان ظهور بعض هذه الأعمال صادماً لكثيرين من الجهابذة الذين اعتمدوا على قوالب معينة اعتنقها أصحابها وأقنعوا الناس بأنها وحدها هي صَنْعة الأدب وكفى، فتوقعوا لأدب المدونات السقوط، ولكن على خلاف ظنهم حققت السلسلة نجاحاً ساحقاً، وأفرزت كثيراً من الأقلام الواعدة المَدفونة عن الجمهور. لولا نجاح هذه السلسلة لظلَّ أصحابها أسيري مُدوناتهم، مكتفين بمناجاة دائرة ضيقة من معارفهم الأهل والأقارب والأحبّة وحسب، على أهمية مواهبهم وكل ما يعرضونه. وكان من أبرز الأعمال كتاب "أرز باللبن لشخصين" لرحاب بسّام، وكتاب الدكتورة غادة عبدالعال "عايزة أتجوز"، الذي حظي بمُعظم الأضواء لأنه وجّه صفعة عاتية لمُجتمع أدمن السكوت والسكون واقتنع سنين طوالاً بأن كُل ما لا يعرفه غير موجود. كما هو متوقّع هاج "أُسطوات" النقد الأدبي من حَاملي الأقلام المُتخمة من كثرة الركون والركود، الذي لا يُغادرون مكاتبهم والمُوكَل إليهم، بُحكم مسؤولية القلم، مهمة التعبير عن واقع يبدون أبعد الناس عنه. من الناس وإلى الناس كان كتاب عبدالعال، فحقّق رواجاً كبيراً استكمله بأن تحوّل إلى مُسلسل ضاعَف من نجاح الكتاب، وسلّط الضوء أكثر على مشكلة العنوسة في مصر بطريقة مبتكرة، توازي مليون مقال يُمكن أن يكتبها هواة المكاتب المكيفة، رواد الاستسهال بعبارات "أكليشيهية"، على غِرار "العنوسة قنبلة داخل بيت"، أو"ناقوس الخطر يقرع في ديارنا"، أو"على الحكومة أن تفعل كذا وكذا"، إلى آخر هذا الهراء الذي لا يُساوي مِلء مَحَابر المَطابع التي طَبعته. صحيح أن القيمة الأدبية للكتاب، بالمعايير الكلاسيكية، لم تكن في تلك النوعية العالية، لكن قيمته ورسالته الاجتماعية غطتا على ذلك. ومنذ متى كانت للأدب قيمة غير التعبير عن المجتمع بآلامه ومشاكله ومزاياه ومَحاسنه، بطريقته ولغته ولِسان حال شارع قومه؟ نجاح الكتاب، ومن بعده تقلُّد رحاب بسّام منصباً قيادياً في إدارة تحرير الدار، أمران اعتبرتهما ضماناً لاستكمال المسيرة وفتحاً كبيراً على جيل الشباب، ومَنْحهم فُرصاً يستحقونها، فيكون لدينا بدلاً من نموذج "غادة" الأُحادي عشرات النماذج الأخرى، يكتبون ويُبدعون، يُثيرون الجدل ويثرون المكتبة العربية أكثر وأكثر. ولكن فجأة توقف كُل شيء. من دون أسباب مُعلنة على الأقل تجمّد المشروع كأنه لم يكن، وأصبح هشيماً تذروه الرياح. ولا تهم السياسة التحريرية ل"دار الشروق"، فأهل مكة أدرى بشعابها، ولا حتى رأي الدكتورة غادة، فالأمر يبدو أكبر من ذلك بكثير. والمعنى من كل هذه المُقدمة هو التركيز على ثلاث نقاط أوضحَتها لنا التجربة السابقة. أولها أن هذا الجيل لم يعقم أبداً من الموهوبين في مجالات شتّى رغم أنف كثيرين، وأن كل ما يَحتاجون إليه إنما هو فُرصة ظهور وجلاء ليتجلّون. ثانيها أن واجب دور النشر في مصر يتخطّى بكثير البحث عن عناوين وحبكات جاذبة تصلح أن تكون أعلى مبيعاً، دون أن تُحقق فائدة حقيقية لقارئ صار الغرض الأول والأخير منه هو جيبه لا عقله، إثارة شهوته لا تنقية نفسه، اللعب على أوتار غرائزه لا مداركه. فأي شيء "يبيع" ننشره مهما كان تافهاً أو فارغاً أو سخيفاً، حتى ولو كان شخبطة طفل يتعلّم الكتابة. ثالثاً وأخيراً أن شبكات التواصل الاجتماعي، رغم عيوبها الكثيرة، استطاعت أن تُحرر كثيرين من هذه الساقية، ووجهت صفعة ليست بالمميتة ولكنها مُوجعة لفكرة "رسملة" العمل الثقافي، فأفرزت عشرات الأسماء كعمرو صُبحي وسارة درويش وإسلام حجّي وآية الملواني... وغيرهم ممن لمَعتْ أعمالهم الإلكترونية وحصدت روَاجاً كبيراً عبر الإنترنت، فتجاوزت أرقام الاطلاع عليها الآلاف، وحقّقت لأصحابها ما لم تُحققه لهم الأعمال الورقية، لمَن جرّب فكرة النشر الورقي منهم، وذلك لأن الدُور التي تناولت أعمالهم لم تكن "الشروق"، فشاب تسويقها وإدراتها لمُعظم الكُتب خللاً كبيراً، علاوة على تعرُّض بعض الكتّاب لحالات نصب مُتكاملة الأركان من بعض الناشرين المُتاجري بالأحلام السَيئي السُمعة. يدور الجدل حالياً في العالم بأسره حول قُرب وفاة الصحافة الورقية، وأن المواقع الإخبارية بخدماتها وسهولة التواصل والتعامل معها قد احتلت موقع الصدارة، وصارت نافذة أساسية للأخبار ومَصدراً موثقاً لأي حَدَث، وأن المستقبل بلا شك صار لها، فصرنا نسمع يومياً، في الداخل والخارج، عن إغلاق عشرت الصحف واستبدالها بعشرات المواقع التي تُنشأ بدلاً منها، فهل نحن على أعتاب طليعة خُفوت مُماثل في النشر الأدبي الورقي، خاصةً مع ظهور دارين اختصتا بالفعل بالنشر الإلكتروني لا غير؟ تُرى هل يأتِ علينا يوم نهنّئ فيه الكاتب الفلاني على حصول روايته الإلكترونية، التي اكتفى بطرحها عبر موقع "غودريدرز"، بجائزة الدولة التقديرية في الفرع الفلاني، أو حتى جائزة البوكر لأحسن رواية إلكترونية؟ هذا ما ستُجيب عنه الأيام المُقبلة.