أشهر طويلة من التبجيل وأسابيع من التمجيد والشعور بالعرفان والإحساس بالفخر وميل للاعتذار عايشها ملايين المصريين طيلة ثلاثة أعوام تقريباً، أي منذ اندلعت ثورة 25 يناير 2011، الملقبة ب «ثورة الشباب». لكن التبجيل انقلب اليوم لوماً، والتمجيد تبخيساً، والعرفان غثياناً، والميل إلى الاعتذار عن سنوات الاتهام بالتبلد وعدم الانخراط في القضايا العامة، اعتذاراً معاكساً... فكأن الجميع يهمس في سره الآن «ليتها ما كانت». مشاعر الإحباط والاكتئاب تعصف بملايين المصريين، إما جراء الهرج والمرج السياسي والتدهور الاقتصادي والخلل الأمني، وإما غضباً لركوب «الإخوان» موجة الثورة واستئثارهم بها، أو رفضاً لاحتكار الشباب الحديث باسم الثورة، أو احتجاجاً على تحول الأوضاع في مصر إلى ما هو أسوأ بكثير من فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك. ذلك كله دفع كثيرين إلى تحميل الشباب مسؤولية ما حدث، بذريعة إنه لولا «ثورة الفايسبوك»، و «شباب مصر الأطهار»، وغيرها من الشعارات التي تغنوا بها، لما دخلت البلاد في نفق الصراعات المظلم ليتبين أنهم أداة تخريب وليس أداة بناء وتغيير. «الشباب عماد الثورة» عبارة تحولت إلى «الشباب وقود الثورة» وهي أيضاً مرشحة للتحول إلى «الشباب مقبرة الثورة». ثلاثة أعوام –إلا ثلاثة أشهر- أمضتها مصر في دوائر مفرغة منذ أنهت الثورة فعالياتها على الأرض خلال 18 يوماً. من دائرة مفرغة إلى أخرى ومنها إلى ثالثة، حتى عجز المصريون عن إحصاء الدوائر المتشابكة اللامتناهية. في البدء كانت دائرة التيه بشباب الثورة الذي أخرج مصر من ظلمات عصر مبارك، فقلب نظامه الغاشم وأنهى حكمه الظالم. ثم أذعنت كوكبة من أولئك الشباب ل «نداهة» الإعلام التلفزيوني، فخرجوا من مرحلة الكفاح الإلكتروني -الذي آتى أكله كفاحاً على مدى 18 يوماً في ميدان التحرير- إلى مرحلة الكفاح التلفزيوني المرئي حيث شهوة الكاميرات وفتنة الاستوديوات ومس الشعبية الكاسحة، إلى مرحلة الكفاح المنعزل حيث الحديث عن أولوليات نظرية حول الحق في التظاهر والحق في التعبير والحق في إطاحة الأنظمة الغاشمة وفي الاطلاع على موازنات الدولة والجيش ومراقبة الأجهزة الحكومية، وهي المرحلة التي بدأ فيها المصريون يشعرون بوطأة غياب الحق في رغيف الخبز ومواصلات آمنة، والحق في أن يذهب الأبناء إلى المدارس من دون خوف من بلطجة أو ترويع أو خطف أو قتل، والحق في عدم الاستماع إلى نظريات حقوقية في الحريات طالما البطون خاوية. جادل شباب الثورة طويلاً في مبدأ الحقوق التي لا تتجزأ، حيث الحق في سد الرمق والأمن والحياة الكريمة لن ينجز إلا بتعزيز الحرية، وهي الدائرة المفرغة التي لا مخرج منها. واختفى شباب الثورة تدريجياً من الشاشات التي احتلوها ضيوفاً ومنظرين ومحللين ومجادلين، وحل محلهم جزئياً شباب آخرون جاؤوا ينطقون باسم القيادات والكوادر بدءاً بالمرشد مروراً بنائبه وانتهاء بقواعد «الإخوان». ومع بدء حكم الجماعة كان لزاماً عليهم تجميل الصورة والمضي قدماً في أسطورة أن الثورة ثورة شباب وأن الجماعة الهرمة التي أطفأت شموعها ال 80 متجددة دائماً وأبداً، ولها وجه يحاكي العصر. وذلك صحيح إلى حد ما، فشباب «الإخوان» ومعهم شاب الجماعات الدينية اتخذوا مواقعهم في صدارة المشهد ولكن كأبواق إعلامية للقادة والمرشد وأمراء الجماعة. ومع الفشل الذريع الذي حالف حكم الإخوان، بدأت وجوه شبابية «ثورية» تتسلل مجدداً إلى الساحة، فبرزت حركة «تمرد». أحاديث «تمرد» ومطالباتها القوية والواثقة بإنهاء حكم الجماعة جمعت قلوب قطاعات عريضة من المصريين حولها، ليتبين أنه حب مؤقت هذه المرة. فقد تعلم المصريون الدرس. «سنتبع الشباب في قوتهم الثورية لحين تحقيق الهدف المباشر المرجو من دون أن نسلمهم رقابنا ومصائرنا»، وهو ما كان. التف المصريون حول «تمرد»، وسقط حكم «الإخوان»، وعاد المصريون أدراجهم إلى حياتهم، باستثناء «الإخوان» والجماعات الحليفة. ومع انخراط «تمرد» في أروقة السياسة وأحاديث الأحزاب وجدليات الحقوق، ومع تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية وتحسن الوضع السياسي بسقوط الحكم الديني، اتخذ المصريون موقفاً متباعداً من شباب الثورة الجدد. «فليفعلوا ما يودون، لكم ثورتكم ولنا حياتنا». وبدأت أصوات الشيوخ والكهول تتعالى رافضة مسبقاً دوائر الحقوق النظرية المغلقة، واستئثار الشباب باليد العليا، واحتكار قوة الضغط على الدولة لتغيير المسارات وتصحيح القنوات وفق أفكارهم وحدهم دون غيرهم. وعادت أقلام كبار الكتاب، وأصوات المحللين الكهول، وأحاديث المواطنين ممن لسعتهم نيران ثورة يناير تتعالى وتتحدث مباشرة عن ضرورة وضع حد فوري لإقصاء الشباب للكبار، ولانتقامهم من كل من تعدى سن الأربعين واتهامه بالهرم والخرف ومطالبته بالتنحي جانباً. وخلع الكبار رداء الحرج وتخلوا عن السكوت احتراماً للشباب صاحب الفضل الأول والأخير في ثورة يناير، ورفعوا أصواتهم الرافضة تماماً للأفكار الشبابية الاشتراكية الثورية المنادية بضرورة هدم مؤسسات الدولة وإعادة بنائها من جديد، والنظريات المثالية الأفلاطونية القائلة «يسقط يسقط حكم العسكر» وإقصاء الجيش وحل الداخلية وبدء التأسيس على أسس مدنية تقارب أسس سويسرا وتطابق الدول الإسكندينافية. يرى الكبار أن مصر في هذا المنحنى التاريخي إما أن تبتلع قدراً من الظلم وتتغاضى عن مقدار من القبضة الحديدية وإما أن تدخل في حرب أهلية. بينما يرى الثوار الشباب أن البناء لا ينبغي أن يتم إلا على أسس نظيفة خالية من أي منغصات للديموقراطية، مع عمليات تطهير وتنظيف.. الآن الآن وليس غداً! لكن الغد قد لا يأتي، في ظل مشهد شبابي آخر يحدث على مرمى حجر حيث فقدت الجماعة صوابها واعتنقت مبدأ شمشون في هدم المعبد بمساعدة شبابها وبعض الألتراس. واليوم الإثنين 4 تشرين الثاني (نوفمبر) تتجلى هذه الأوامر من القيادة إلى القاعدة متزامنة مع محاكمة الدكتور محمد مرسي، حيث «الشباب (الإخوان) عماد الثورة (الإخوانية) « بعدما تحول شباب آخرون «وقوداً» وشهداء وضحايا للثورة» ليلتقي الجميع عند كونه «مقبرة للثورة».