«شباب الثورة» عبارة تحولت في مصر إلى «علامة مسجلة». فكما بات هناك «شاب مكافح» و»شاب عصامي» و»شاب مهندس» و»شاب عاطل»، بات هناك «شاب الثورة». في البدء كان الإعجاب الذي لا يخلو من انبهار، والترقب الذي لا يخلو من دهشة، والصدمة التي لا تخلو من فرحة. فالسنوات التي أمضاها الكبار وهم يصبون لعناتهم على الصغار لانسلاخهم عن الواقع تارة، ولتبلدهم وتقوقعهم تارة، ولانغماسهم في عوالم افتراضية لا تسمن من حب الوطن ولا تغني عن وطنية تبددت في لحظات ثورة يناير الأولى. لكن رومانسية اللحظة وعنفوان الثورة ونتيجتها الظرفية المؤدية إلى إزالة شكلية لنظام ديكتاتوري فاسد سرعان ما بدأت في التبدد بمرور الأيام. المواطن المصري العادي رأى في حياته بعد الثورة قدراً أكبر من الغم وحجماً أعتى من الظلم. وشاهد هذا المواطن بأم العين كيف تحول البعض من أشهر «شباب الثورة» إلى منظرين سياسيين ومتكتكين استراتيجيين وخبراء عسكريين وعتاة اقتصاد وأباطرة اجتماع. وبينما كان المشهد في الشارع يتحول من ملحمة إلى مهزلة، حيث عمت الفوضى وانتشرت التظاهرات والاحتجاجات في كل ركن من أركان مصر دون أهداف موحدة، أصر أولئك الشباب الذين انجرف بعضهم وراء نجومية الظهور الإعلامي وأهمية لقاء كبار رجال الدولة وإدمان التنظير والإفتاء حتى وإن كانوا يرتكزون على أسس هشة لا هدف منها إلا الجدال. وارتفعت تدريجياً أعداد المصريين المنصرفين عن «شباب الثورة» إن لم يكن في العلن، فسراً، إذ تنامى شعور لدى المواطن العادي أنهم انخرطوا في أحاديث النخبة وانشغلوا بقضايا كونية لا علاقة لها بالعيش المستعصي والحرية المخنوقة والعدالة الاجتماعية التي ظلت مفقودة. ويكفي أن عدداً منهم تحول إلى مقدمي برامج «توك شو» ظلت على مدى العامين الماضيين تصيح وتهلل وتتكلم الكلمات نفسها وتؤجج المشكلات نفسها وتتصنع مشاحنات الهواء نفسها. وذاع اعتقاد تحول إلى مقولة باتت إيماناً راسخاً لدى غالبية المصريين. «شباب الثورة الأصليين ذهبوا إلى بيوتهم عقب يوم 11 شباط (فبراير) 2011». صحيح أن بعضهم كان ينزل الميدان في مليونيات بعينها ارتأى إنها ذات معنى أو في أعقاب أحداث كارثية آمن أنها تهدف إلى هدم ثورته، لكنهم لم يدمنوا الحالة الثورية. لم يطلوا عبر الشاشات مساء كل يوم، ولم يؤسسوا منظمات مجتمع مدني، ولم يعتبروا أنفسهم أدرى الناس بأحوال البلاد والعباد. لكن النتيجة كانت فجوة بين الشعب بفئاته وطوائفه العمرية والاجتماعية والنوعية من جهة وبين شباب الثورة من جهة أخرى. وعلى الجانب الآخر، شعر شباب الثورة كلهم، باستثناء المنتمين للجماعات الدينية، بأنهم سلبوا ثورتهم. فلا هم أو أفكارهم حكمت، ولا أهداف الثورة تحققت، ولا نظام تغير، فقط حل واحد محل الآخر لكن بلحية. لحية النظام لم تشفع له أفعاله وإخفاقاته بل أججتها بعد ما ارتدى الفشل والظلم وأحياناً القتل والعنف رداء الدين. وحسناً فعلت الموجة الثورية الثانية بتفجر بوادرها عبر وجوه جديدة وأصوات غير معتادة ونظريات غير مرتادة وأفكار «تمرد». «تمرد» أحدث مولود ثوري شبابي مصري تتعلق به أنظار المصريين وقلوبهم وعقولهم. صحيح أن كثيرين حريصون على عدم فتح الباب أمام مشاعرهم الفياضة وأحلامهم الخفاقة حتى لا يصابوا بالصدمة نفسها التي أصابتهم بعد موجة يناير الثورية، لكنهم ينظرون صوب «تمرد» باعتبارهم الأمل في الغد الأفضل الذي حلموا به وسلبتهم إياه الجماعات الدينية. آخرون أعادوا كرة المشاعر الفياضة المتعلقة بشباب «تمرد»، لكنهم فعلوا ذلك إما بعد أن فكروا ملياً وحللوا المشهد كلياً ووجدوا أن مثل هذه الفكرة الشبابية غير المألوفة وغير المعتادة كانت كفيلة في بث الذعر في قلب النظام، وهو المطلوب، أو أنهم فكروا ملياً وحللوا المشهد ورغم عدم اقتناعهم التام مع «تمرد» كفكرة وكخطوة، شكلت طوق النجاة الوحيد المتاح، فتضامنوا معها اتباعاً لمبدأ «خسرانة خسرانة». لكن يظل هناك من لا يقبل بالخسارة، حتى وإن كانت متوقعة بسبب الإخفاق الرهيب والفشل الذريع. شباب الجماعات الدينية، من أحزاب ومجموعات ومحبين وداعمين، يقفون على الجبهة المضادة. صحيح أن بنات أفكارهم ولدت «تجرد»، إلا أنها كانت أشبه بالمولود السخيف المستنسخ من مولود سبقه أثبت نجاحاً ولاقى قبولاً فحاول البعض الحصول على مولود مثله ولكن بلحية. وسواء كان هذا أو ذاك، يظل رواد المشهد الحالي في الشارع هم الشباب الذي يقودون للمرة الثانية في أقل من ثلاثة أعوام جموعاً من الشعب المصري المعروف بتركيبته الهرمية وعشقه للأقدمية، وهو ما تبلور بعد الثورة الشبابية بساحة سياسية رسمية يسيطر عليها الشعر الأبيض والقلوب المنهكة والعقول المستنفدة. وسواء نجحت «تمرد» في استعادة ثورة المصريين المسلوبة، وبغض النظر عن نتيجتها، يظل الإطار العام للمشهد السياسي المصري يرفع شعار شباب مصر «نحن هنا».