صوتٌ أنثويٌ دافئ، يفجر «تسونامي» في مُنْتَدى «أفيد» عن مستقبل الطاقَة عربياً، ونقاشات بألسنٍ متعددة تخرج عن المألوف عربياً في مسألة الطاقَة وعلاقتها ببيئة صحراء العرب وثرواتها ومصائر مجتمعاتها. لا أقل من مُصطلح «تسونامي» لوصف وقع كلمات الباحثة غلادا لاهن القليلة والواضحة في اختتام مؤتمر عام 2013 ل «المُنْتَدى العربي للبيئة والتنمية» («أفيد» AFED) الذي يرأسه الزميل نجيب صعب. ورنت تلك الكلمات بهدوء موجة رائقة، في أرجاء قاعة المؤتمرات في «الجامعة الأميركية في الشارقة» التي احتضنت مجريات مُنْتَدىً كُرس لنقاش التقرير السادس ل «أفيد» وعنوانه «الطاقَة المُستَدامَة لمستقبل البلدان العربية». إذ أوصت لاهن بتبني توصيَة اقترحها «صندوق أوبك للتنمية» («أوفيد»OFID) بشأن أسعار الغاز والنفط داخل السوق العربية، يشدد على ضرورة التعامل بحذر مع هذه الأسعار وما تتضمنه من دَعم للمستهلك العادي وصناعات يتوخى تحفيزها حكومياً ومساندتها، إضافة إلى كونها أداة سياسية قوية. وأظهرت لاهن أنها التقطت الحساسية الهائلة التي ترتبط بمسألة سعر البترول في الشرق الأوسط، وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية. ولم يَفُت مندوب ل «صندوق أوبك للتنمية الدولية» أن ينوه فوراً بما ذهبت إليه الباحثة لاهن التي تعمل في مؤسسة «شاتهام هاوس» Chatham House وهي أحد أبرز مراكز بحوث الطاقَة عالمياً. وطالب المندوب بتعديل توصيات مُنْتَدى «أفيد» السادس عبر تبني الحساسية المتعددة الأبعاد التي لفتت إليها الباحِثة لاهن. وللإشارة إلى قوة ما أدلى به هذا الصوت الأنثوي، يكفي القول إنها تحدت بوضوح مقترحاً أساسياً في مسودة توصيات المُنْتَدى حمل رأياً متطرفاً يقول بضرورة المُسارَعَة إلى إلغاء الدَعم نهائياً ضمن مدى زمني ضيق، عن أسعار البترول في دول الخليج. وأغفل هذا الرأي الذي تصدت لها كلمات لاهن الأبعاد المُعقدة المرتبطة بتسعير البترول، ليقصر الأمر على مسألة توجيه الدَعم للفقراء، وكأن سعر البترول شأن يتعلق بالصدقة والإحسان، وليس بمصائر التنمية ومساراتها الحساسة في الدول الخليجية والعربية، بل ربما بمستقبل هذه الدول أيضاً. غضب يواجه «فقر الطاقَة» ظهر الخلاف على هذه المسألة منذ الجَلسة الافتتاحية لمُنْتَدى «أفيد» التي حضرها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات رئيس الجامعة الأميركية في الشارقة. ففي تلك الجلسة، تفجر صوت سليمان الحربش، مدير «صندوق أوبك للتنمية الدولية» OPEC Fund for International Development («أوفيد»)، مُحذراً من الاندفاع صوب القول بضرورة المُسارَعَة في إلغاء الدَعم. وفتح الحربش أفقاً واسعاً بإثارته مسألة «فقر الطاقَة» Energy Deficiency في الدول العربية مُستنداً إلى أرقام تقول بوجود ما يزيد على 50 مليون شخص لا تصلهم الكهرباء فيعتمدون على وسائل بدائية في الطاقَة (وهو وصفٌ تكرر في توصيَة «أوفيد» المذكورة آنفاً)، ما يوجب مزيداً من الحذر من الاقتصار على رؤية الدول العربية من زاوية الوفرة في الطاقَة. (أنظر الإطار «أبعد من مصطلح «كارتل»). وخلال مُنْتَدى «أفيد»، تكرر الرأي المتطرف بإلغاء فوري للدَعم وصولاً إلى من استعمل تعبير «تسوية الحقل» لأنواع الطاقَة، بمعنى أن تساوي الدول العربية النفطية في تعاملها بين البترول والطاقات المتجددة، على رغم أنها ارتكزت بصورة عميقة إلى البترول في تاريخها الحديث ومساراته كافة. هل يصح نفض اليد فجأة من طاقَة كانت في أساس ثروة المجتمعات وتنميتها وعلاقاتها لعقود طويلة، بل أنها متغلغِلَة ومُتخالطة بقوة مع مناحي الحياة في هذه المجتمعات؟ هل يصح أن تستجيب الدول لمطالب شركات الطاقات الجديدة بصورة أحادية، بمعنى الحرص حصرياً على أرباح هذه الشركات واستثماراتها، وإغفال الأبعاد المتشابكة لمسألة أسعار البترول؟ لماذا لا يصح، كما جاء في أحد مداخلات البروفسور مانفرد هافنر (أستاذ في «جامعة جونز هوبكنز» الأميركية)، أن يتوقع مواطن سعودي من دولته أن ترعى مصالحه في مسألة الطاقَة؟ المفارقة أن كلمات هافنر نفسها تشير أيضاً إلى أن الأسعار مسألة تتعلق بطبيعة العقد الاجتماعي العميق في دول الخليج، فهل من المقبول النظر إليه بأحادية متطرفة؟ وتكرر على لسان هافنر وآخرين القول بأن الأسعار الرخيصة حائل يمنع الابتكار، وأن رفع الدَعم يؤدي إلى «تفجر الإبداع» في العقول العربية! أليس هذا نموذجاً مشتطاً عن تفكير يرى الأمور من منظور وحيد، بل عبر افتراضات يصعب قبولها بديهياً بمعنى أن النقاش حولها طويل وشائك؟ ألم تكن الدول الغربية المُكونة حاضراً ل «مجموعة الثمانية» G8 ودول «منظمة التعاون وتنمية الاقتصاد» OCED، شديدة الميل إلى الدَعم الحكومي لعقود طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، فلم لَمْ يتوقف الإبداع والابتكار في عقول أبنائها؟ وما زال موضوع الدَعم الكثيف خلافاً مستمراً بين الاتحاد الأوروبي وأميركا في صناعة الفولاذ، وكذلك تعتمد الصين سياسات دَعم متعددة الأوجه، فأين توقف الابتكار والإبداع؟ بانوراما لقطات سريعة نوقش تقرير «أفيد» المُعنون «الطاقة المستدامة: التوقّعات، التحدّيات، الخيارات» في الجامعة الأميركية في الشارقة أخيراً، في حضور جمهور ضخم من المختصين والإعلاميين ورسميين من دول مجلس التعاون الخليجي وشركات بترول ومجموعة كبيرة من طلاب تلك الجامعة. واختتم النقاش بجلسة شارك فيها 52 طالباً جامعيّاً جاؤوا من 26 جامعة عربيّة. يصعب وصف هذا التجمّع بالمألوف. وكذلك خرجت عن المألوف نقاشات لامست حدوداً قلقة طالما اعتُبِرَت «تابو» محظوراً، في شأن البيئة والطاقة في الخليج. «فراكِنِغ» أميركي وهدر عربي بدا من النقاش أن أبرز متغيّرين في مشهد الطاقة هما المناخ واكتشافات الغاز والنفط الصخري في أميركا. وجرت استعادة تقرير صدر أخيراً عن «اللجنة الدولية الحكوميّة عن تغيّر المناخ» (أنظر «الحياة» في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2013)، الذي شدّد مجدّداً على الدور الحاسم للنشاط الإنساني في الصورة المعاصرة لظاهرة الاحتباس الحراري، خصوصاً انبعاث غازات التلوّث من الوقود الأحفوري. ولفت البعض إلى توقّع إقرار اتفاقية دوليّة ملزمة في شأن المناخ في باريس في عام 2015. وأشار مختصّون إلى أن تقنية «فراكِنغ» Fracking (تحطيم الصخور بالطاقة الهيدروليكية لاستخراج النفط والغاز الحبيس فيها)، قفزت بالولايات المتحدة إلى مرتبة المنتج الأول للبترول. ووصفوا الغاز بأنه جسر العبور من طاقة البترول والفحم الحجري إلى الطاقات النظيفة المتجدّدة Renewable Energies. ولفتوا إلى انتقال دول «منظمة التعاون وتنميّة الاقتصاد» Organization of Cooperation & Economic Development إلى الطاقة البديلة (مع صعود اهتمامها بالنمو في آسيا)، وهو أمر تسير فيه الدول الصاعِدَة. وشدّد على وجود هدر عربي ضخم في كفاءة الطاقة، خصوصاً في استعماله في المباني خليجياً. وعلميّاً، يُشير مصطلح «كفاءة الطاقة» Energy Efficiency، إلى كميّة الطاقة التي تُستهلك في صنع وِحدَة من الناتج القومي الخام لبلد ما، يوازي ألف دولار. وشدّدوا على أن كفاءة الطاقة في الدول العربيّة هي 0.19 طن من طاقة النفط، وهو أدنى كثيراً من المعدل الأوروبي (لكنه قريب من المعدل العالمي وهو 2.0 طن)، ما يعني هدر كمية كبيرة من النفط داخل البلدان العربية مع خسارة ثروة تصديرها. ولاحظوا أن الاقتصادات العربيّة تتميّز بأن استهلاك الطاقة يسير أسرع من الإنتاج، ما يبرز الحاجة إلى استخدام الطاقة بكفاءة. هاجس التجدّد لامس هذا النقاش واقع ارتفاع الطاقة المتجدّدة عربيّاً في السنوات القليلة الماضية. إذ وظّف العرب قرابة 1.9 بليون دولار في الطاقة المتجدّدة، ما يوازي 6 أضعاف مستواها في 2004، مع وجود 16 دولة عربيّة لديها أهداف محدّدة في هذه الطاقة. ويُشار إلى أن التوظيف عالميّاً في الطاقة المتجددة هو 242 بليون دولار، وهو رقم يرتفع باستمرار. وشدّدت بعض المُداخلات على أن «بصمة البيئة» ثقيلة عربياً، مع ملاحظة أن دولة الإمارات تحلّ ضمن الدول ال15 الأولى في ثِقَل الوطأة على المناخ، ما يشدّد على الحاجة أيضاً إلى ترشيد استهلاك الطاقة وزيادة كفاءة استخدامها، والتوسّع في الطاقة المتجدّدة، وإعادة هيكلة الاقتصاد بالنأي به عن الاعتماد على النفط، والابتعاد أيضاً عن الصناعات الكثيفة في استهلاك الطاقة كصناعات الألومونيوم والإسمنت والفولاذ. واعتُبِر أن الانتقال إلى تنويع الاقتصاد يترافق أيضاً مع تنويع الطاقة بالتركيز على الأنواع المتجدّدة والنظيفة.