قبل فترة وجيزة، انشغلت وسائل الإعلام بخبرين متقاربين صدرا بفارق أيام قليلة عن بعضهما بعضاً، واستند كلاهما إلى مرجعية علميّة موثوقة، كما أنهما صبّا في الاتّجاه ذاته: نفي ظاهرة شغلت العالم المعاصر قرابة قرن، بل إنها شغلت الإنسانية آلافاً من السنوات! ظاهرة الأطباق الطائرة، التي تُسمّى أيضاً «أجسام طائرة مجهولة الهوية» Unidentified Flying Objects، واختصاراً «يوفو» UFO. ففي الصيف الفائت، أعلنت بريطانيا أنها أغلقت نهائياً مكتباً علميّاً مختصّاً بظاهرة ال «يوفو»، بعد أن خلص في نهاية جهود دؤوبة إلى أن لا دليل على وجود أطباق طائرة. وشدّدت بريطانيا على أن المكتب تفحّص على مدار عقود، ما وُصِفَ أنه «مُشاهدات» لأطباق طائرة، لعل أشهرها ما نُسِبَ إلى رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل من أن طائرته «قابلت» طبقاً فضائياً طائراً، فلم تثبت صحة أيّ منها! وبعد الإعلان البريطاني بأيام قليلة، بيّنت «الوكالة الأميركية للفضاء والطيران» («ناسا») أن لا أدلّة علميّة على وجود أطباق طائرة آتية من الفضاء، وأوضحت أن معظم المُشاهدات المتّصلة بهذه الظاهرة تتصل بتجارب سريّة لسلاح الطيران الأميركي، على غرار التجارب على القاذفة «ستيلاث بومبر - ب 2» Stealth Bomber- B2 التي اشتُهِرَت باسم «الطائرة الشبح». «إي تي» يمهّد ل «لقاء مع نوع ثالث» الأرجح أن تلك الوقائع أزجت تحيّة وداع قويّة لخيالات بشريّة مديدة عن زوار يهبطون من السماء آتين من أفلاكٍ بعيدة، بل ربما من كوكب المريخ القريب أو غيره. ثمة هواجس انتابت عقول الناس وشغلت بالهم وألسنتهم لأزمان طويلة، لعل أقربها إلى الذاكرة تلك التي تردّدت في المجتمعات الغربية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، واستمرت لعقود تالية عليها. وحتى يومنا هذا، ما زال المعتقدون بهذه الظاهرة يشكلون نسبة غير قليلة من الناس. ولئن حُسم الجدل بالنسبة إلى كثير من الظواهر والشهادات، فإن شيئاً من الغموض ما زال يكتنف بعضاً من الروايات عن ال «يوفو»، حتى الآن. يؤيّد العلم بقوة إمكان وجود كواكب مأهولة خارج النظام الشمسي، وبعضها ربما يكون أقدم من الأرض بملايين السنين، وتالياً ليس مستبعداً وجود حضارات أكثر تطوّراً بكثير من حضارتنا الأرضيّة، ما يعني أن احتمال زيارة الأرض من قِبَل كائنات تنتمي إلى حضارة كونيّة، أمرٌ لا يجافي المنطق العلمي. في المقابل، يلاحظ أن موضوع الأطباق الطائرة، تحوّل هاجساً في أذهان كثيرين، في العقود الوسطى من القرن الماضي، بل شمل مستويات اجتماعيّة متنوّعة، وعملت على نشرِهِ ألسنة العامة وبعض المؤسسات الإعلاميّة الوازِنَة، سواء بدافع المصلحة أم بحشرية الإعلام والسعي إلى السبق الصحافي في شكل عام. وغذّى الاعتقاد بوجود الأطباق الطائرة، عدا عن «ظهورها» المتوهّم أمام آلاف الشهود في أكثر من بلد، أساطير ونصوصاً ومنحوتات غريبة واكتشافات آثاريّة غير معهودة، وأحداثاً متفرّقة لم تتبنّ تفسيرها أية جهة في حينه. يضاف إلى ذلك خيالات ملأت أفلام هوليوودية نالت رواجاً كبيراً، عن غزو الأرض من قبل مخلوقات فلكيّة غير - أرضيّة. وبذا، باتت الأطباق الطائرة أمراً «واقعاً» في أذهان كثيرة إلى درجة أن بعض شركات التأمين الغربيّة عملت على استثمار هذه المخاوف، ففتحت باباً إضافياً في لائحة أعمالها: التأمين ضد اعتداءات الأطباق الطائرة! وبعد فيلمه المُرهَف «إي تي» ET (اختصاراً لمصطلح «إكسترا تريستريال»Extra Terrestrial وترجمته «من خارج الأرض») عن طفل فضائي تتركه أسرته على كوكب الأرض، صنع المخرج المُبدِع ستيفن سبيلبيرغ فيلم «لقاء مع نوع ثالث»، وبلغت شهرته حدّ أنه عُرِضَ في البيت الأبيض، فأثار مشاعر كبيرة حيال تصديق التواصل مع كائنات فضائية. ويُعرَف عن وكالة «ناسا» دأبها على ملاحقة موضوع الحضارات الكونيّة، عبر مشاريع فضائية كبرى وبحوث علميّة تخصّص لها موازنات ضخمة. ليس جديداً أبداً أمر الاعتقاد بوجود حضارات غير - أرضية وكائنات فضائية. وفي المقابل، شكّلت الحرب العالمية الثانية مع ما تخلّلها من تجارب على أسلحة جديدة وصواريخ وطائرات ومناطيد مختلفة، مساحة لإذكاء مخيلات «شهود العيان» عن ظواهر كان سهلاً على مخيلاتهم التبرع بنسبتها إلى «الأطباق الطائرة». غابة سوداء وجسم غريب شملت ظاهرة ال «يوفو» مشاهدات كثيرة لأضواء تمرّ مُسرِعَة في السماء، وأخرى تهبط إلى الأرض، ويبلّغ عنها شخص أو حفنة من الأشخاص، أو ربما ظهرت «شهادات جماعيّة» في هذه البقعة أو تلك، وساهمت في ترسيخ الاقتناع بظاهرة الأطباق الطائرة. ولعلّ أكثر حوادث «المشاهدة الجماعيّة» المطبوعة في ذاكرة الغربيين في تلك المرحلة، هما حادثتا «الغابة السوداء» في ألمانيا، و «الجسم الغريب» في ولاية تكساس الأميركية. اعتُبِرَت حادثة «الغابة السوداء» في ألمانيا عام 1936 من حوادث ال «يوفو» الأكثر إثارة للاهتمام، إذ تمحورت حول ارتطام جسم طائر مجهول كبير الحجم في غابة قرب مدينة «فرايبورغ» الألمانية، اسمها «الغابة السوداء». حينها، استدعى «شهود» من السكان المحليين الشرطة على عجل، واستُقدِمت مجموعة من الشاحنات إلى موقع «الارتطام» لأخذ قطع الجسم المجهول وإرسالها إلى مركز «وي وِلزبرغ كاسل». ودرس المركز هذا الحدث في مختبرات سريّة، رصدت الدولة النازيّة ملايين الماركات الألمانية لها. وأثناء احتدام الحرب، حين تقدّم السوفيات لغزو المكان، عمل النازيّون على تدمير المختبرات المتّصلة بالحادثة، ودمّروا القطع المجمّعة هناك، بل راجت إشاعات عن مقتل شهود الحادثة أيضاً! حدث آخر تداوله الأميركيون في 8 تمّوز (يوليو) 1947، إثر نشر بعض الصحف الأميركية خبراً عن اكتشاف طبق طائر متحطّم في بلدة «روزويل» في «نيو مكسيكو» في ولاية تكساس الأميركية. كما نشرت شهادات جماعية لسكان المنطقة المجاورة عن رؤيتهم طبقاً غريباً طائراً يهبط برشاقة وسرعة فائقة قرب بلدتهم. وحينها، أَمَرَت الحكومة الأميركية باقتياد الجسم إلى «المنطقة 51» في صحراء «نيفادا» لتحليلها. ومنذ ذلك الحين، كان موقع الاختبار الحكومي العالي السرية موضوعاً لأسئلة ونظريات غرائبية في شأن أشكال الحياة الغريبة المقبلة من السماء. أجّج هذان الحدثان كثيراً الخيالات عن الأطباق الطائرة والمخلوقات الفضائية في عقول الناس، خصوصاً الأميركيين. وراجت قصص كثيرة عن رؤية أطباق طائرة، أو مخلوقات فضائية، بل ظهر أناس ادّعوا أنهم تحدثوا مع تلك الكائنات، أو أنها اختطفتهم وأعادتهم! ففي الأرجنتين مثلاً، انشغلت الصحف الصادرة في 18 تمّوز 1992 بخبر اختطاف طبق طائر أربعة أطفال أكبرهم في الثامنة من العمر، وعودتهم سالمين بعد ثلاثة أيام من اختطافهم، بعد أن أخذتهم المركبة الغريبة في رحلة فلكيّة استمتعوا بها كثيراً، وفق ما رووا للمحققين الحكوميين. ولا تشكّل هذه الحادثة سوى قطرة في بحر متلاطم عن «مشاهدات» الأطباق الطائرة والتفاعل مع كائنات الفضاء الخارجي. هل يخمد أوار هذه الظاهرة مع تقدّم بحوث الفضاء في القرن 21؟ أكاديمي لبناني متخصص بالفيزياء النوويّة