تعددت النظريات الحديثة التي حاولت تفسير كيفية نشأة المدن ومن ثم المعايير التي تميز المدينة عن غيرها من مراكز الاستيطان الأخرى، ويكشف البحث ان نشأة المدينة الإسلامية وتطورها ارتبطا بمعايير حضارية اسلامية تأثرت الى حد كبير بتاريخ الإسلام وتطور حضارته. تبدأ نشأة المدينة الإسلامية من يثرب بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم اليها والتي حولتها الى مدينة بمفهوم حضاري واضح انسحب على تسميتها فأصبحت تسمى «المدينة» فبعد الهجرة حدث تغيير واضح سعى الى تحقيقه الرسول، اساسه الدعوة الى الإسلام، ذلك الدين الذي بدأت في ضوء قيمه وتعاليمه عملية تهيئة المجتمع الإسلامي الجديد لحياة حضارية تلازمت تماماً مع اهتمامه بالكيان المادي للمدينة، فأدى ذلك تدريجاً الى تكامل المراكز الحضارية الإسلامية. وأثمرت السياسة التي اتبعها الرسول عليه السلام القائمة على تذويب العصبيات القبلية ودعوته الى نشر روح التآخي عن تحقيق أهدافها في ايجاد مجتمع اسلامي مترابط بعيد من النزعة القبلية المتعصبة ومتجه نحو تطبيق تعاليم الدين الإسلامي ولا أدل على ذلك مما نراه في مدن الأنصار التي انصهرت فيها القبائل المهاجرة من الجزيرة العربية فافتخرت بأبناء مدنها وعلمائهم وأدبائهم بعد ذلك. بدأت معالم يثرب العمرانية تتغير تغيراً جمع شتاتها ووحد كيانها وجعلها مركزاً حضارياً متكاملاً يتناسب وذلك التغيير الذي اراده الرسول والذي طرأ على مجتمعها الإسلامي الجديد الذي بدأ يستجيب للتشكيل الحضاري الذي يدعو اليه الإسلام وبعد الهجرة صارت للنبي صفة جديدة هي صفة رأس الدولة الإسلامية بجانب الصفة الأساسية الأولى وهي صفة النبوة ومن ثم أصبحت مركزاً سياسياً وإدارياً فاكتسبت بذلك الصفة المدينية وكان لذلك أثره المباشر في تكوينها المادي الذي بدأ يتغير تلبية لتلك المتغيرات المدينية. توافرت للمنطقة التي نزل فيها رسول الله وهي منازل أخواله من بني النجار ميزات أمنية مهمة لتقارب منازلها وفي هذه المنطقة كانت بداية العمل الإنشائي للتكوينات المعمارية الجديدة وكان نواتها المسجد الجامع ومن حوله بنيت منازل للمهاجرين الموزعين في أحياء الأنصار ومن حوله في هذا المركز العمراني الناشىء بدأت أعمال الإنشاء بالمسجد الجامع وبجواره من جهة الشرق بني منزل الرسول مشرعاً أبوابه على المسجد وبنيت قبلته أولاً في اتجاه الشمال نحو بيت المقدس وفي سنة 2 هجرية عدلت القبلة نحو مكة تلبية للأمر السماوي ومع تزايد أعداد المسلمين باتت الحاجة ملحة لتوسعة المسجد وكانت التوسعة الأولى بعد غزوة خيبر سنة 7 هجرية ومن حول المسجد الجامع اختطت منازل للمهاجرين في الأرض التي وهبها الأنصار الرسول وجاء أكثر اقطاعات الرسول في الأرض الموات فقد ذكر ابن سلام ان الرسول عليه السلام حين هاجر الى المدينة جعل له اهلها كل ارض لا يبلغها الماء يصنع بها ما يشاء « ومن هنا شغلت الأراضي الفضاء بالتكونات المعمارية الجديدة من المنازل والمساجد وغيرها التي قام على انشائها المهاجرون بعد ان اقطعهم اياها الرسول فتواصل عمران المدينة واتصلت مبانيها وأصبحت كياناً عمرانياً واحداً بعد ان كانت منفصلة، وبعدما خرج اليهود منها أقطع الرسول الأراضي التي وهبه اياها الأنصار للصحابة فكان لعبد الرحمن بن عوف الحصن المعروف به ولأبي بكر رضي الله عنه موضع داره عند المسجد وأقطع كلاً من عثمان بن عفان وخالد بن الوليد والمقداد وعبيد والطفيل وغيرهم موضع دورهم وبذلك تكاملت هيئة التكوينات المعمارية بعمارة المساجد ودور السكن ووضح توزيعها على خطط المدينة وكان ذلك محكوماً بتحديد وظائف كل منها وهو اتجاه في التخطيط اصبح اساساً متبعاً في ما انشىء من المدن الإسلامية الجديدة وانسحب على المدن القديمة التي فتحها المسلمون كدمشق وقرطبة وغيرهما. واستكمالاً لمرافق المدينة العمراني اهتم الرسول عليه السلام بإنشاء السوق، ومقارنة بين اسواق يثرب في الجاهلية التي تعددت أمثلتها وكانت تقع على اطراف المحلات السكنية وبين سوق المدينة في الإسلام تكشف عن الحكمة من التخطيط الحضاري الإسلامي الجديد، فقد اقر الرسول نظام المراقبة في الأسواق فكان يمر بنفسه في السوق ويوضح الأسس الإسلامية في التعامل وعلى هذه القاعدة للتعامل سلم عمر سوق المدينة وبعد فتح مكة سنة 8 للهجرة استعمل سعد بن العاص على سوقها وربطت الشوارع والطرقات باعتبارها شرايين الاتصال بين هذه التكوينات المعمارية وكشفت الروايات التاريخية ان المدينة خط بها شارع رئيسي يمتد من المسجد ويتجه غرباً حتى يصل الى جبل «سلع» وطريق من المسجد يخترق منازل بني عدي بن النجار ويصل الى «قبا» جنوباً ومن قبا طريق يتجه شمالاً الى «البقيع»، وقامت على جوانب هذه الشوارع الرئيسة التكوينات المعمارية المختلفة وتفرعت منها شوارع فرعية تتوغل داخل خطط الأنصار والمهاجرين لتسهيل التوصل الى مسجد الرسول في المركز. وهكذا ربطت هذه الشوارع المدينة ومحلاتها ربطاً عضوياً بما حولها من محلات سكنية متناثرة الى مدينة تتصل اطرافها بطرقات رئيسة بمركز المدينة وبالذات المسجد الجامع. وسن رسول الله انشاء مقار للعلاج والتطبيب فبعد رجوعه من غزوة الخندق وضع خيمة في المسجد للتداوي وتابع الحكام وأهل البر والخير هذه السنة وسعوا الى انشاء «البيمارستانات» التي توفر العلاج لأهل المدينة والقادمين اليها وأوقفوا الأوقاف الكثيرة عليها فبلغت مستوى متقدماً في العلاج والتطبيب كما خصصت المدينة دور الضيافة واستقبال الوفود كان من أهمها دار عبد الرحمن بن عوف الكبرى وكانت تسمى دار الضيفين او دار الأضياف وكان لتوجيهات الرسول عليه السلام الأثر الكبير في نظافة المدينة فحددت مواضع لقضاء الحاجات تسمى «المناصع» اضافة الى بيوت الخلاء الملحقة بالمنازل كما ان الرسول دعا الى اماطة الأذى عن الطريق باعتبار ان ذلك شعبة من شعب الإيمان فكان يدعو الى تنظيف الشوارع وإزالة العوائق منها وتجميلها وفي هذا الإطار اختار مواضع الذبح بعيدة من الأمكنة التي تزدحم بالمارة. وحقيقة الأمر ان هذه التكوينات كانت تفي بحاجات المجتمع الفردية والجماعية المادية والروحية كما يتضح الأساس الذي قام عليه توزيع الإقطاعات لإنشاء المحلات السكنية التي تشتمل عليها المدينة والتي تركت حرية تقسيمها وتخطيطها مكفولة للأفراد والقبائل واكتفى الرسول بالتوجيه والإرشاد، ومع استمرار الفتوحات الإسلامية ودعم هذه المدن بالجيوش حدث النمو الطبيعي في مدن الأنصار وتمشياً مع توزيع القادمين الى هذه المدن زادت الحاجة الى المنشآت التي تتسع الى هذه الزيادات السكانية المتتابعة فشغلت المساحات الفضاء جميعاً وتلاصقت الخطط وحدث تحول ادى الى انصهار المجموعات السكنية كما ظهر تحول الى النواحي الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، فقد أخذت المبادىء والقيم الإسلامية تتغلغل بالتدريج وظهر ذلك في محاول المشتغلين بالفقه والحديث في بث المفاهيم الإسلامية، وأسفرت هذه المحاولات عن نشأة علم الفقه وعن ظهور مدارس محلية فقهية تتمثل فيها الجهود الجماعية وينمو ارثها الفكري بطريق التراكم والتكامل. وكان لسياسة الحكام الرامية الى العمران اثرها الواضح في تطور المدن وازدياد عمرانها وتبلور كثير من النظم الإسلامية التي ادت بدورها الى زيادة عمران المدن ولا أدل على ذلك من ظهور المدارس كمؤسسات تعليمية والخانقات والربط والزوايا كمؤسسات دينية، وكان لوقف الأوقاف عليها الأثر البالغ في تطور المدن وازدياد عمرانها حتى نهاية العصر العثماني، ولعبت الأوقاف دوراً خطيراً في إحياء المدن وانتشرت انتشاراً ملحوظاً حتى خصص لها ديوان يعرف بديوان الأحباس او الأوقاف وبدا أثره في عمران المدن الإسلامية واضحاً بصفة خاصة مع بداية القرن السادس للهجرة واستمر بعد ذلك مؤثراً اساسياً من المؤثرات التي دفعت الى تطور عمران المدينة الإسلامية وأثرت تأثيراً واضحاً في تشكيل حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. والأوقاف بهذا المعنى تستلزم حركة عمرانية تشكل جانباً مهماً من حركة العمران في مراكز الاستيطان ومن اهمها المدن، وأقر الإسلام مبدأ الوقف وأوضح فقهاء المسلمين الأصول التي تتبع عند الوقف وصنفوا انواعه وحددوا شروطه وظهر اثره في عمران المدينة الإسلامية باعتبارها حيز تطبيق لأوجه نشاطه المعمارية، ولم يتوقف دور الوقف على الامتداد الإنشائي للمدن المتمثل في كثرة المنشآت الموقوفة بل تعداه الى جوانب اجتماعية أخرى تمثلت في رعاية اهل العلم من شيوخ ومدرسين وطلاب ومتصوفة وما ناله الأطفال الأيتام من رعاية وتنشأة اجتماعية سليمة من خلال ما يجدونه في مكاتب الأيتام التي انتشرت ووقف الأوقاف عليها لتقوم بهذا الدور الذي يؤهل الأيتام الى حياة علمية اكثر تقدماً. ولأهمية دور الأوقاف وتنوع مجالاته يذكر ابن بطوطة ان من الأوقاف ما خصص لمساعدة العاجزين عن أداء فريضة الحج ومنها ما خصص لفكاك الأسرى. ولا شك في ان رعاية المشآت الموقوفة وكثرة انشائها ورعاية المباني الموقوفة عليها وإدارة ذلك كله ادارة جيدة تحقق مصلحة الوقف وتكشف عن اهمية نظامه وأثره في عمران المدينة الإسلامية خصوصاً في الفترات التي ازدهرت فيها الأوقاف ابتداءً من العصر الأيوبي. * كاتب لبناني