تكاد تجمع أغلب الدراسات على أن كتاب ألف ليلة وليلة ليس من تأليف مؤلف واحد، وهناك سبب حقيقي لهذا الإجماع. كتب أنطوان غالان: «نحن نجهل الكاتب الذي ألف هذا العمل الكبير، لكن لا يمكن منطقياً أن يكون هذا العمل نتاج شخص واحد. هل يمكننا أن نصدق بالفعل أن رجلاً واحداً تمتع بخيال واسع يمكّنه من اختلاق كل هذه الحكايات الخيالية»؟ وينظر جمال الدين بن الشيخ إلى الكتاب بوصفه أثراً من دون مؤلف، تشكل شفهياً على مر القرون. أما الفرنسي أ. ميكال فيرى أن الكتاب نتج عن «مشغل أدبي عالمي عجيب» تجمعت فيه الروافد السورية والمصرية والعراقية والإيرانية، وضمت الروافد المحلية وغير المحلية، البائد منها كالهندي والبابلي والنابض منها بالحياة، وقام على المشغل حكّاؤون وشعراء وكتاب وعلماء. ولكي لا يسيئ القارئ فهم أ. ميكال؛ يجب أن نفرق بين الإبداع الشعبي للمجتمع وبين إبداع العمل الجماعي. حدد أ. ميكال المشْغَل والمشْتغلين؛ لذلك فكتاب ألف ليلة وليلة ليس خلقاً لمجتمع شعبي ولا من إنتاجه، إنما هو نتاج عمل جماعي، أي عمل مجموعة من المؤلفين الفنانين جمعهم أسلوب عمل موحد، وهو نوع جديد من التنظيم لم تعهده الثقافة العربية قبل القرن التاسع الميلادي. لكننا الآن لا نعرف نوع التنظيم، ولا كيف تضافرت جهود هؤلاء لإخراج هذا الكتاب الرائع. وأهم من هذا لا نعرف ما إذا كان هناك شخص مسؤول عن العمل الجماعي يضفي عليه طابعه الأخير، أم أنه عمل يجسد مجهودات متعددة أضفت عليه طابعاً فريداً هو أنه نتاج عبقرية جماعية. وبالرغم من أن أ. ميكال يورد أن هذا الجمع يتكون من حكائين وشعراء وكتاب وربما من العلماء، إلا أننا لا نعرف عنهم شيئاً. لا نعرف أصولهم الاجتماعية ولا مراكزهم، ولا الدور الذي كانوا يؤدونه للجماعة، ولا السمعة التي كانوا يتمتعون بها، لكن الأرجح أنهم كانوا حكائين وكتاباً وشعراء وعلماء من مستوى أدنى قياساً إلى الحكاء الديني، وشعراء البلاط، وكتاب الدواوين الرسمية الذين كانوا يلقون التقدير في الأوساط الدينية والسياسية والثقافية الرسمية. *** إذا كان ذلك كذلك فسأتخيلهم في صورة مثقفين مطّلعين ومقصيّين من الأوساط الدينية والأدب والثقافة الرسميين. يمكن أن أوظف هنا تشبيهاً ليس دقيقاً لكنه يعبر بالقدر الكافي عما أريد قوله. يشبه هؤلاء شهرزاد التي قرأت كتباً ألّفها شعراء ومؤرخون وعلماء فلك وسحرة وكيميائيون، واختاروا منها ما يمكن إعطاؤه شكلاً سردياً. ليس سهلاً هذا العمل، فهو ينطوي على مجازفة إذ يتوجب على هؤلاء المثقفين أن يقيسوا ما اختاروه بأدق مقاييس غريزتهم السردية. قرأ هؤلاء الكتب، وأعادوا تشكيل مضمونها ليصبغوها بمعنى يكون عظام ما سيُسرد على جمهور من المستمعين. لذلك سأفترض أنهم مهنيون، احترفوا الحكي إلى حد أنه عملهم الذي يعتاشون منه، وقد اندمجوا في مهنتهم إلى حد أنهم اختفوا وراء ما يحكون، فلا نعرف لهم أسماء ولم يحرصوا هم على أن يذكروها، ومن الجائز أن حكم الخلافة الصارم والمطلق والمستبد، وروح المجتمع الدينية المتطرفة دفعتهم إلى أن يخفوا أسماءهم إلى حد أننا لا نعرف أحداً منهم الآن. إننا لا نعرف ما إذا راوي الحكايات هو نفسه الذي يُعد أي يبسّط ويقرب الكتب إلى الجمهور، أم أن دوره يقتصر على الحكْي أمامه؛ لذلك سأفترض أن تنظيماً داخل هذه المجموعة المثقفة؛ فهناك من يقرأ ويبسّط ويقرّب إلى الجمهور، وهناك من ينسخ، وهناك من يبيع، وهناك من يروي للناس. قد يشذ شخص ما عن هذه الجماعة. يخبرنا ابن النديم أن الجهشياري اختار هو نفسه من كتب مصنفة ما يمكن أن يحكى للناس من الأسمار والأخبار ثم استعان بالحكائين «وأخذ منهم أحسن ما يعرفون ويحسنون»، مما يعني أن حكايات الأسمار لم تعد عملاً من عمل الأفراد، إنما أصبحت إنتاج طوائف محترفة يجمع بين أعضائها تضامناً روحياً، وتراثاً مشتركاً، وأساليب عمل موحدة. يحتل الراوي في هذه الطائفة موقع الوسط بين المثقفين الذين يختارون من الكتب المؤلفة في عجائب البحر والبر وعجائب السحرة، وكتب الرحلات، وكتب الأقوام الآخرين كالروم والفرس والهند في الخرافات والأسمار والأحاديث، وكتب العشاق من سائر الناس الذين ألفت في حديثهم الكتب، وكتب العشاق الذين تدخل أحاديثهم في السمر وبين الجمهور الذي يستمع. ليس سهلاً أن يكون الإنسان راوياً؛ لأن الرّوي يستلزم البراعة، والواقع أن صورة هذا الراوي تفتقر إلى التحديد، لكنها في ما أفترض صورة تلخص تطور العمل الثقافي من العمل الفردي إلى العمل الجماعي. لعل أبرز نتائج تنظيم هذا العمل الثقافي أن هؤلاء المثقفين كوّنوا مهنة واسعة الانتشار، ودقيقة التنظيم. يعدّون بحيث كان الرواة يجدون ما يلبي كل الأذواق. إن الانعطاف الذي أنجزه هؤلاء يكمن في كونهم مثقفين مشردين من وجهة النظر الرسمية. لم يكونوا عالة على أحد، ولم يعتمدوا على والٍ أو أمير لكي يرعاهم، إنما اعتمدوا على جمهور متنوع المشارب. يجب ألا نُخدع بسوق النسخ المزدهرة، فالمؤكد أن القراء قلة بسبب عدم انتشار القراءة والكتابة، وأن بيع النسخ لن يجعل منهم مستقلين اقتصادياً، والمعول على الجمهور بما يهبه لهم. لا بد من أن نأخذ في الاعتبار سمة ميزت هؤلاء المثقفين هي افتقارهم إلى النجاح الحقيقي بمقياس عصرهم، فما يختارونه، وما يحكونه لم يكن ليروق لا للطبقة العليا ولا للمتدينين، لكن الجمهور العام أي ما سمّي فيما بعد بالعامة مقابل الخاصة أثبت مع الزمن أنه ذواقة أفضل من أولئك، وأن هؤلاء المثقفين الذين كرسوا عملهم للأسمار ظاهرة فريدة في الثقافة العربية القديمة. *** سأتحدث عما يدور في ذهني من أفكار مستخدماً رواية مدن الخيال في هذه الرواية هناك امبراطور يُدعى قبلاي خان، ورحالة يُدعى ماركو بولو، وامبراطورية تتعفن كجثة في مستنقع، وينشر تعفنها الوباء في الغربان التي تأكل منها. امبراطورية مريضة تحاول أن تتعود على جراحاتها. يروي الرحالة ويستمع الامبراطور الذي لا يصدق ما يسمعه، ومع ذلك يواصل الإصغاء وهو يعرف أن الرحالة لم يبرح مكانه في الحديقة، لكنه تحدث عن رحلاته إلى مدن لا وجود لها على أي خارطة. رحلة في الخيال إلى مدن لا مرئية. سأدرج من الرواية هذا الحوار البديع: - مدنك لا وجود لها، ربما لم يكن لها وجود ذات يوم، ولن يكون لها وجود في المستقبل، فلماذا تلهو بخرافاتك تبتغي منها السلوى؟ أعلم جيداً أن امبراطوريتي تتعفن كجثة في مستنقع، وينشر تعفنها الوباء في الغربان التي تأكل منها، وفي أعواد الخيزران التي تمتص سائلها. لماذا لا تحدثني عن هذا؟ لماذا تكذب على امبراطور التتار، أيها الغريب؟ كان ماركو بولو يعرف كيف يطرد شبح سوداوية الملك: -نعم، الامبراطورية مريضة. والأسوأ من ذلك أنها تحاول التعود على جراحاتها. وإليك خلاصة استكشافاتي: إذا تفحص المرء آثار السعادة التي يمكن إدراكها، فإني أقدر أنها نادرة. فإذا كنت تريد تود أن تعرف أي ظلام يحيط بك. فما عليك إلا أن تثبت ناظريك في الأنوار الشحيحة الصادرة عن مكان بعيد. وأنا ألخص لاستخدامي صورة الامبراطورية المتعفنة التي رسمها كالفينو، أفكر في الامبراطورية العربية الإسلامية التي تعفنت، وفي الرواة الذين يشبهون ماركو بولو، وفي الجمهور الذي يعرف كقبلاي خان أن الامبراطورية العربية الإسلامية لم يبق منها سوى أطلس المدن، لكن الحكايات تذكره مثلما ذكرت قبلاي خان بالامبراطورية الرائعة التي تصدعت. كان هناك امبراطورية، كان ذلك في (كان) في زمن انقضى، عندئذ حاول الحكاؤون العودة إليها ولو في الكتب. لقد تحولت الامبراطورية إلى حكاية لا تنتهي إلا لتولد حكاية أخرى، الامبراطورية التي لن تعد ما قالته أو فعلته، إنما تحولت إلى ما يُحكى أنها قالته أو فعلته. التّكثير. يجب مواجهة نسيان الامبراطورية بالكثير الكثير من الحكايات التي توردها الكتب. تتطلع الامبراطورية إلى أن تُحكى؛ لأن الامبراطورية التي لا تُحكى تكون كما لو أنها لم توجد قط. الكتابة مضادة للزوال، والحكايات مضادة للموت، لكن لا الكتابة ولا الحكاية تستطيعان أن تعيدا ما تهدم. يمكنهما أن يبعثا الحياة في المشاعر، لكن الامبراطورية لا تُبعث، إنما تولد بطريقة أخرى، وتعيد إبداع نفسها في الحكايات. من هذا المنظور، لماذا يجب أن يكون تاريخ الامبراطورية رواية أشخاص حصيفين، وليس هراء الخاسرين؟ إذا كان التاريخ - كما يبدو - جنساً من الأجناس الأدبية، فلماذا يُحرم من المخيلة والهراء والفظاظة والمبالغة والهزيمة التي تشكل المادة الأولية للأدب، والتي لا يمكن تصوره بدونها.